يونيسكو يكتب لحظتنا "الهرمة"

12 أكتوبر 2015

يوجين يونيسكو.. حاجة عربية إلى قراءة أدبه (أرشيف/Getty)

+ الخط -
بعض الأعمال الأدبية حافل بالدلالات، سابق لزمنه، يقرأ المستقبل مثل طالع العرّاف، ويذهب أبعد من حركة الأزمنة، خلفا وقدما. طبعا لا يتأتى ذلك إلا للأدب العظيم وللكتاب الكبار ولأصحاب النظرة المرعبة المقيمة في قلب الحقائق والأشياء. فحين تقرأ أعمال الكاتب المسرحي الفرنسي/الروماني، يوجين يونيسكو، تشعر بهذه القوة الزلزالية، صاحب مسرحية "الكراسي" و"موت ملك" الذي سخر من السلطة ومن النخب، يفعل الشيء نفسه في مسرحيته "الرجل ذو الحقائب". فأفضل موضوعاته تلك التي تتعلق بالبشر التائه الباحث عن معنى، وأحب الجدران التي يفضل أن يسدد نحوها طلقاته القاتلة تلك التي تتصل بالنخب وبالقضايا المحسومة. 
عاش يونيسكو حياة مضطربة، في بوخارست، قبل أن ينتقل للعيش في باريس، وساهم بشكل حاسم في الحياة الثقافية بين الحربين. ولذلك، جاءت أعماله موشومة بالأسئلة القلقة للإنسان المنبوذ والمعرّض في أي لحظة لأخطار الحروب وتوافه الأمور، تلك التوافه التي تقضي على البشر وتحطم الإنسان.
وهو كمهاجر هارب من قدر رومانيا الشيوعية، يشبه اليوم إلى حد كبير آلاف البشر من العرب الهاربين من أقدار بلدانهم وبطش حكامهم، ويكاد، في ظل انعدام ناطق رسمي باسم هؤلاء العرب، أن يكون المعبر عن كثافة ما يعيشونه اليوم، وفي جل الأعمال التي كتبها بلا استثناء.
حوارات مسرحيات يونيسكو قوية وباهرة وصادمة، حادة مثل حماقة الموت، وغير رحيمة مثل حرب تقوم بلا سبب وتقتل الآلاف وتدمر حيواتهم. يكتب يونيسكو على لسان الرسام في "الرجل ذو الحقائب" مهاجماً النخب "ليس الشعب غبيا، بل الصفوة التي تتسم بالغباء. تلك الصفوة الغبية الحقيرة وليس الشعب". وفيما يشبه اليأس من عصره، ومن القيم المحيطة به، يكتب في شبه مرثاة "أي هدوء يسود، إنه ليس الهدوء، لكنها أغنية الوداع، غناء بجعة فوق نهر السين القذر".
ربما تبدو الحاجة عربياً إلى إعادة قراءة أدب هذا الرجل، لأنه يضعنا في صلب المشكلات التي نعيشها كعرب، فللحروب وللخضات الاجتماعية وللهبات وللقلاقل أثمان كبيرة في الأرواح. لكن، من جانب آخر، تبرز الحاجة إلى منتوج قيمي وأفكار وأدب وفن مطبوع بزمنه، الذي هو زمن الحرب واللاستقرار.
ما السبيل أمام الإنسان المقهور هذا؟ أي باب للخلاص يمكن أن ينقذه؟ في نهاية مسرحية "الرجل ذو الحقائب" يقترح يونيسكو حلا شاملا للمعضلة، وهذا الحل السحري هو الحلم.. الحلم مفتوح العينين، أو عدم النوم في الحلم، وهو ما يعني المثابرة من أجل أن يتحول الحلم إلى حقيقة، والنضال من أجل ذلك.
ليس سهلا أن يتحقق ذلك في عالم يرتج تحت اللامعقول، ويفقد فيه عقله كل يوم. إنه التحدي والأمل الوحيد الذي يروّجه يونيسكو، وهو الذي يعرف جيدا معنى التوليتارية، وجرّب شمولية الأنظمة، ويدرك الأفاعيل التي تلحقها بالبشر، حينما تحولهم فجأة إلى طابعة كبيرة للنسخ، لا أقل ولا أكثر.
في مثل الظروف التي يمر منها العالم العربي، تستوجب العودة إلى أدب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما بينهما، فلحظة الهجرات الكبرى التي تعيشها عدد من الشعوب العربية، ونيران الأرض والسماء التي "تتنزل عليها"، عذاباً وموتاً وجحيماً مر المذاق، تحتاج إلى أدب يقاومها، فلا شيء أقوى من الفن ومن الأدب ومن "الغناء"، لأن ذلك يشبه الطقس الديني، يزوّد الإنسان بنفس جديد للمقاومة، وطاقة لقهر أزيز الطائرات واختراقات الرصاص ويمنح الحصانة ضد الخوف.
يكتب يونيسكو في مسرحية "رحلة إلى عالم الموتى" ما يشبه الدعوة إلى التجاوز، فلقد استقر العالم على الخطيئة، ولن يكون هناك من مفر إلا بالمجابهة. يقول على لسان ألكسندر "لن تكون هناك أركان صغيرة هادئة مدة طويلة، انتهى الأمر. كما ترى أنت تراهم يحاصرونك، يلتهمونك".
انتهت أغنية السلام الكاذب، ولن يكون هناك نوم في الحلم أبداً، على الأحلام أن تصاب بداء اليقظة حتى تتحول إلى حقيقة.
دلالات
6A0D14DB-D974-44D0-BAC8-67F17323CCBF
حكيم عنكر
كاتب وصحافي مغربي، من أسرة "العربي الجديد". يقول: الكرامة أولاً واخيراً، حين تسير على قدميها في مدننا، سنصبح أحراراً..