يوميات الوباء: ذاهبون إلى عالم لا نعرفه

18 ابريل 2020
"وسط البلد" في عمّان (Getty)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع الكتّاب العرب في قراءاتهم أثناء فترة الوباء، وما يودّون مشاركته مع القرّاء في زمن العزلة الإجبارية.


في قريتي يتصرف الناس كأنهم كلهم مصابون بالفيروس. أو كأنهم كلهم آمنون. يمارسون حياتهم اليومية كالمعتاد من العاشرة صباحا حتى السادسة مساء. الدكاكين مفتوحة. الفول البلدي يباع على قارعة الطريق. ولا تزاحُم على مخبز حسني الفرّان.

اتصلت بصديقي "حميد كيا" الذي يعيش في مخيم النّور شرق قريتي حوارة لأطمئن على أحوالهم، فقال: "الحمد لله. اللي عنده يعطي الماعنده. المهم لقمة تسد الجوع. وخربوش يأوي الراس. والحكومة ما قصرت جابولنا خبز".

متطلبات العيش قليلة وغير مكلفة. أما وقد أفسدت الثقافة الاستهلاكية أهل المدن، فسيشكو أهلها حتى من نقص نكاشات الأسنان. وينشغلون بمتابعة مسلسل الإصابات المحلية، والسرديات الكبرى لكورونا.

في بيتي صرت أكثر ميلا للتأمل والتحديق بالتفاصيل. أنتبه لزوايا رؤيا جديدة، والتقط التفاصيل وهي تتغير. كنت أذهب إلى عملي من العاشرة للخامسة يومياً. خصصت هذا الوقت لمزروعاتي وأشجاري حول البيت (عشّبت البصل وقطفت الفول الاخضر، وقصيت حوض السبانخ، ونظفت الفسائل والسرطانات عن جذوع أشجاري، وزرعت البامياء والبندورة والقثاء).

طبعا أتابع الأخبار، ووسائل التواصل الاجتماعي. أسمع موسيقى وأشاهد أفلاماً وأقرأ قليلا. فأنا معتاد على المزاوجة بين العمل ومتعة القراءة والتأمل.
أحلام اليقظة مهنتي. (اكتسبت هذه المهارة أثناء سنوات السجن).

حين أغمض عيني أخرج من الواقع، وأغوص عميقاً في لجة الكون، فأشعر بأني فوق كل التزام، وأقوى من أي إكراه، وبأني حر طليق بلا كثافة ولا تكلّف، ولسبب لا أعرفه، وجدت قلمي شغوفا بالكتابة عن الغجر:

[كان لنا مملكة، وكانت لنا حكاية، لكن مملكتنا طواها النسيان، وحكايتنا لم يُؤبّدها الرواة. كنّا سادة الكلام. نتحدث للكائنات فتجيبنا، نلقي التحية على الزهور فتبتسم، والطيور والفراشات تردد أهازيجنا. في حكاياتنا كان الغجري منّا يستيقظ طفلا وليدا يكبر مع ارتفاع الشمس في السماء. في المساء يشيخ، وعندما يخيم الليل يموت. في اليوم التالي يستيقظ طفلا جديدا. كانت الطيور ركائبنا نسرجها كالخيول. الصقور تحمل متاعنا إلى أعالي الجبال. فوق الغيم كانت الخيول تجرّ عرباتنا المزركشة نحو الشمس..]

على الشاشات اللامعة يختلط الواقع بالخيال، والفكر بالخرافة، والحكاية بالأسطورة، والمعرفة بالفانتازيا. هذا الحساء الرديء وجدت بديله عند الغجر بعيدا عن هجمة الرعب الكوروني، والتبجح البشري بالمعرفة. هل أحاول رسم نقيض لاضطراب العالم السوريالي من حولي؟
لا مناص من التفكير بهذا الفيروس اللعين.

هل سيشكل فيروس كورونا علامة فاصلة بين سرديات ماكنة الاحتراق الداخلي، والصناعات العملاقة والتلوث البيئي والبوارج الحربية والصواريخ البالستية. وبين سرديات فيزياء الكم وتكنولوجيا النانو وعلم الجينات والحواسيب الكمومية والذكاء الاصطناعي؟

إنها تلك الأشياء المتناهية في الصغر التي تنمو في الهامش بعيدا عن أعين الفضوليين وفجأة – يبدو الأمر كأنه فجأة - تشكل مسارات وتفرض واقعا.
لعل التحولات العظيمة تحدثها أصغر التغييرات، وأشد الكائنات خفاء!
هل نعت أحداث كورونا الحداثة وما بعدها بشكل عملي، ووضعتنا وجها لوجه أمام "واقعية سائلة"- على غرار سلسلة سوائل زيغموند باومن-.

المعماري الساخر روبرت فنتوري يعرف ما بعد الحداثة بأنها الحداثة مضافا إليها شيء ما. وأنا أقول إن الحداثة وما بعدها أضيف إليها ما يفسدها ويبطل سحرها، وقد حدث أن أكلت حليمة ربها، واستنفدت دودة الحداثة تفاحتها، وهاهي كورونا تفتح مسربا جديدا لرياح التغيير.
الآن ودائما نحن ذاهبون إلى ذلك العالم الذي لا نعرفه.


* كاتب من الأردن

المساهمون