ينشأ الفتى على ما علّمه أبوه

24 يوليو 2018
+ الخط -
في كل حين وآخر نذهب إلى ظلٍ يُؤوينا ويحمينا، ومن ثُم نمشي لنرتوي من النهرِ لتثمر شجرتنا، نشعر بالتعب فنبحث عن جدار لنستند إليه، فلا نجد جدارا أقوى منه، ومن ثم يأتي وقت الليل ويخيم الدجى علينا، فتنطفئ كلّ المصابيح إلا مصباحا يبقى منيرا لنا في كل حين، هكذا هم آباؤنا؛ أبقى ظلًا، وأكثر نهر نرتوي منه، وأقوى جدار لنا في حال ضعفنا، ومصباحنا الذي لا ينطفئ، هم من يعلمون الوقوف في وجه كل ريح يهب رغم ألم الوقوف، من لا يرضون أن نرمي همومنا خلفَ ظهورنا حتى لا تنحني، بل يحثوننا على مواجهتها رغم صعوبة المواجهة، ونحن ننشأ على ما يعلمون عليه، فنكتسب منهم أساليب الحياة، يقول الشاعر: "وينشأُ ناشئُ الفتيانِ مِنا .. على ما كان علّمهُ أبوهُ".

كانَ أبي -أطال اللهُ بعمرهِ وعلمني الله شيئًا مِن علمه- يقولُ: أي بُنَيّ إنَّ الدنيا كالعروسِ المُتزيّنة بأبهى حلّةٍ، فلا تَنظر لها بعينٍ عاشقةٍ ولا تُصغِ لها بأذنٍ واعية؛ فإنّه لا يؤمن مكرها، ولا يستحب غدرها، ولتكنْ على علمٍ يا بُنيّ وأنّه على الرغمِ مِن كُلّ هذا، إلا أنّ الدّنيا كما هي منذُ آلاف السنين، فهي لا تتغير بل النّاس من يتغيرون، وأُريد أن أُخبركَ بأن أباكَ حملَ الحجارة الثقيلة والأحجامَ الكبيرة ولم يجد ما هو أثقل وزنًا وأكثر ضرًّا من كلمة سوء يتلفظها لسانك فتمتلئ بها صحيفتك وكتابك، ومِن ثُم يأتي يومٌ تُحاسب فيه حسابًا عسيرًا وتُعذبُ فيه عذابًا أليما بسببِ ما تلفظته.


يا بُنيّ إنّي أحثّكَ على الحفظِ والعمل بقول الشاعر: "نَفْسُ الكَرِيمِ عَلَى الخَصَاصَةِ وَالأَذَى .. هِي فِي الفَضَاءِ مَـعَ النُّسُورِ تُحَلِّقُ" تَذكره كُلما واجهتَ أعداءك، وعندما يستهزئُ لسقوطك أقرباؤك، وردده في نفسِك كُلما ضاقت بك بلادك، أيّ بُني لا ينبغي عليَّ أن أُفسّر وأشرح لك هذا البيت؛ فأنتَ أكثر معرفة بالشعرِ من أبيكَ، وكن عزيز النفس دائما، يقول الإمام الشافعي: "والله لو علمت أن شرب الماء يثلم مروءتي ما شربته طول حياتي". واعلم يا بُنيّ بأنّ الدّنيا تقيلُ وتقعدُ، وتغلو الأشياء وترخص، ونحنُ نحنُ، شعارُنا في هذه الحياة قول أبي العتاهية: "فالآنَ يا دنيا عرفتكِ فاذهبي .. يا دارُ كلّ تشتت وزوال".

كان أبي يقول: من كان اللهُ معه فلن يضلَّ طريقه، ولن يبتعد عن منهجه ودينه؛ فإن معيّة الله -سبحانه وتعالى- تهديه، كما أنّها تكفيه، فكان يحثّني على العلمِ ويقول: إنّ رأسَ العلم يا بُنيَّ تقوى الله وليس بأن يُقال لك كم درست، واختَر يا بُنيّ ثوبَ الإحسان لا أن أراكَ ثوبَ الإساءة قد لبست، وأي بُنيَّ لا تكن ممن يُحبونَ المباني ويشيّدونها وإذا مرّوا بعقول مُبتكرة يهدمونها، وإن مررت على قومٍ يهدمون الدّنيا فزدها هدمًا معهم، وحصّن أمرَ دينكَ ما استطعتَ، يقول الشاعر: "نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا -فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّعُ، فطوبى لعبدٍ آثر الله ربّه - وجاد بدنياه لما يَتوقعُ". واعلم أن الوردَ ينبتُ مِن الشوك، وينبت النرجس من البصل، فلا تقل إنّ الأصل هو الفصل؛ فإنّ أصل الفتى ما قد حصل.

يا بُنيَّ أخشى عليك الإملال، ولكن، هذا آخر كلامي، أي بُنيَّ إن شعرتَ بالجوعِ فعليك بزهرةِ الآدابِ وثمرة الألباب، وإن شعرتَ بالظمأ فارتوي مِن الشافي في أصول شرح الكافي، وإن بحثتَ عن عقدٍ يزيدك حسنًا ولطفًا فلن تجد أفضل من العقد الفريد، وإن دخل الإملال قلبك وخشيتَ النفور فابحث عن المستطرف في كلّ فنٍ مستظرف، وإن أردتَ البحث عن صناعة ولم تهتدِ، فعليك بالصناعتين، وتعلّم من صبح الأعشى في صناعة الإنشا، يا بُنيّ لقد جَمعتُ لك النصائح فامتثلها؛ إنّ حياتك أفضل ما امتثلت، واعذر تقصيري وسهوي وخذ بوصيتي إن رشدت يا بُنيّ.

دلالات