كفى بالحسنِ أنّها عيناكِ

29 يونيو 2018
+ الخط -
إن العيون تمتلك لغة يعرفها ويستخدمها الناس، عامتهم وخاصتهم، فهي لغة الهوى؛ وهي أشهر لغة موجودة من بين كل لغات العالم، ولا تتفوق عليها أي لغة مهما كانت معانيها بليغة وألفاظها رصينة، والذي يميزها عن باقي اللغات أنه يتم النطق بها من غير لسان وتُسمع من دون كلام، فيقول الشاعر حيص: «فالعين تنطق والأفواه صامتة حتى ترى من ضمير القلب تبيانا».

هي الأقوى تعبيراً والأسهل في توصيل الرسالة، فهي تعتبر مرآة الكلام؛ وهي لا تتكلم إلا بصدق وشفافية، ولغة العيون تكشفُ العاشق، وتفضح الكاذب، وتُظهر من هو سعيد أو من هو عكس ذلك، وعندما تُخاطب العيون تكون أبلغ من الكلام، فهي بريد القلب، يقول الشاعر نفسه: «العين تبدي الذي في قلب صاحبها من الشناءة أو حب إذا كانا». والعين لسان القلوب ونافذة الروح، فالعيون تعتبر معجزة الله على أرضه؛ فهي تدل على حالات كثيرة وأشياء عديدة لا يمكن لنا أن نحصي عددها.

ولقد كانت العيون من أكثر الأودية التي يهيمُ بها الشعراء والكتّاب والأدباء، فالعين أساس الجمال وينابيع الإلهام، وسرّاقة القلوب، ومحركة الأقلام والمشاعر، يقول أحدهم: «أكبر لص موجود على الأرض هو الجمال الكائن في عيني المرأة». ويقول آخر: «كلما نظرت إلى عيني زوجتي نسيت آلامي وأحزاني»، ولقد أكثر جميع الأدباء بشكل عام والشعراء بشكل خاص في وصف العيون وجمالها وفتكها، وأسرها للقلوب، وإسكارها للعقول، فبدأ الشعراء يتنافسون في أيٍّ منهم يستطيع أن يحسن وصف العيون ليذكره التاريخ ويوصف بذلك بأنه أجمل بيت شعر قيل في العيون، وفي هذه التدوينة - إن شاء الله - سأحاول أن أرصد لكم أجمل الأبيات في ذلك، مع البعد عن أي تحيز في السرد، فلن أهتم بالشاعر، سواء كان الشاعر من المتقدمين أو المحدثين، ولن أتحيّز للعرق أو الدين، أو منطقة جغرافية بعينها، والله ولي التوفيق.

ونبدأ بما تفعله العيون من فتّكٍ في القلوب وإسكارٍ للعقول، وسرقة للقلوب، يقول الشاعر ابن تعزي في هذا: «فَلَمّا رآني العاذِلون مُتَيَّمًا - كَئيباً بِمَن أَهوى وَعَقليَ ذاهِبُ، رَثوا لي وَقالوا: كُنتَ بِالأَمس عاقِلًا - أَصابَتكَ عَينٌ؟ قُلتُ عَينٌ وَحاجِبُ!»، لقد تغيّر الشاعر واختلف وأصبح ظاهراً للجميع ذلك، وسئل عن السبب فقال: إنها من أثر العين والحاجب. ومن ثم نأتي إلى ما قاله ابن الرومي، إذ أنشد قائلاً عندما رأى محبوبته: «ويلاهُ إن نظرتْ أو إن هي أعرضت - وقعُ السّهامِ ونزعهنَّ أليمُ» إن الشاعر يتأذّى في كلا الحالتين؛ فهو يتألّم عندما تنظرُ إليه محبوبته، فهو كمن أُصيب بسهمٍ في صدره، ويتألم كذلك إذا لم تنظر إليه وأعرضت عنه، وكأنّ أحدهم ينزعُ السهم الذي أصاب صدره. ونذهب إلى أمير الشعراء، أحمد شوقي، إذ يصف حاله عندما رأى عيني محبوبته قائلاً: «عيناه حقًا بالجمال تفردت - وتمرّدت حتى سُقيتُ هواهُ». ونتأمل ما قاله الصائغ عندما وصف نظرات الأعين بالأسهم التي تفتك القلوب، إذ يقول: «لمثلي من لواحظها سهام - لها في القلب فتك أيُّ فتكِ، إذا رامتْ تشكُّ به فؤاداً - يموت المستهام بغير شكِّ»، ونرى ما قاله المتنبي في هذا، حيث يقول: «‏لا السيفُ يفعلُ بي ما أنتِ فاعلةٌ - ولا لقاءُ عدوِّي مثلَ لُقياكِ، لو باتَ سهمٌ من الأعداءِ في كَبِدي - ما نالَ مِنِّيَ ما نالتْهُ عيناكِ!». 

ومن ثم ننتقل للحديث عن جمال العيون ووصف الشعراء لها، ونبدأ في ذلك بالشاعر قيس بن الملوح عندما نظر إلى ظبية وتحدث معها وقال: «عيناكِ عيناها وجيدُكِ جيدها - سوى أنّ عظم الساقِ منكِ دقيقُ» فهو يقول للظبية إن عينيها تشبهان عيني محبوبته. ونذهب إلى شاعر مجهول الهوية يقول: «عيناكِ قوسٌ لا أطيقُ سهامه - كفّي فدرعي من سِهامك يُهزمُ»، ما ألطف هذا التشبيه وما أجملها من معانٍ، فهو يشبّه عينيها بالقوس الذي يرمي نحوه سهامًا لا يستطيع ردها، فيطلب منها السلام. ويقول شاعرٌ آخر مجهول الهوية: «عيناكِ أوطانٌ أسافرُ في تأملها - أودعتها الرحمن في حلٍ وترحالِ» يشبه الشاعر عينيها بالبلادِ التي يذهب إليها الناس لتأمل جمالها ومشاهدة معالمها وآثارها. ولم يكتفِ الشعراء بذلك فها هو الشاعر إبراهيم الصواني يتمنى أن يكون حظه في الدنيا كاتساع العيون عند بعض الحسناوات، حيث يقول: «لو أنّ حظي باتساعِ عيونها - لحكمتُ من نجدٍ إلى بغداد» وواصل الشعراء تعزلهم بالعيون، فيصف الشاعر العيون بالسيف الذي يطعن كل من كان واقفاً أمامه ويزيد الوصف جمالاً بحديثه عن رموشها، إذ يصفها بالسيوف التي تحدث أصواتاً عند وقعِ بعضها على بعض، انظر إلى جمال البيت: «لها عينٌ تجيدُ الطعنَ فيها - ورمش كالسيوف لها صليلُ» ألم تلاحظ أن البيت مليء بالحركة والأصوات التي زادته جمالاً.

ونذهب إلى الشاعر إدريس جمّاع وبيته الشهير، إذ يقول عندما رأى فتاة عيناها جميلة: «السيفُ في الغمدِ لا تخشى مضاربه - وسيفُ عينيكِ في الحالينِ بتّارُ» هل هناك أجمل من هذا التشبيه؟ يقول الشاعر إن السيف عندما يكون في الغمد، وهو غطاء السيف، لا يوجد أحد يخشى حدته وإيذاءه، وهذا مخالفٌ لعينيكِ اللتين تكونان في كلا الحالتين بتّارتين قاطعتين تؤذيان الجميع. ونتوقف قليلا عند ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي في وصف العيون: «عيناكِ بحرٌ والجفون شواطئ - والهدبُ خَلقٌ حولها عشاقُ» شبّه الشاعر عينيها بالبحر وجفونها بالشواطئ التي تجذب إليها عشاق الطبيعة لتقرّ أعينهم برؤية هذا الجمال.

ونمرُّ على ما قاله الشاعر - مجهول الهوية -: «‎اغزوا الفِرنجَة كُلها وحُصونها - مِنْ أجل عينيها نويتُ جهادا»، إن الشاعر أعدّ نفسه للجهاد والقتال، وهذا الجهاد مغايرٌ للجهاد الذي نعرفه، فهو يريد أن يجاهد كل من يحاول الوصول إليها. وننتقل إلى قول شاعر غير معروف، يقول الشاعر: أوّاه من رمشٍ أحاط بعينها - سهمٌ تمكنَ في الوريد فمزقا. يشبه الشاعر الرمش الذي يُحيط بالعين بسهمٍ أصابَ وريداً فمزقه وفتك به. وننهي حديثنا بقول الشاعر جرير، الذي يصف العيون الحور بالقاتلة، إذ يقول: «إنّ العيونَ التي في طرفها حورٌ - قتلننا ثم لم يحيين قتلانا».

دلالات