يلّا ارحل: سماء أهزوجة الثورة ما تزال بعيدة

15 يناير 2015
همام السيّد / سوريا
+ الخط -

لا يبدو أنّ أحداً ممن حاكوا أغنية القاشوش الشهيرة مستعدّ لأن يتخلى عن سحر قصة المغني الذي اقتلعت حنجرته، لمصلحة الحقيقة أو ما حدث بالفعل. فرغم أن معظم أبناء مدينة حماة السورية يعلمون أنّ صاحب الأغنية ومؤدّيها في قلب مظاهرات المدينة هو عبد الرحمن فرهود، الملقب بـ "رحماني"، وليس إبراهيم القاشوش، ومع أن الكثيرين يعلمون أن رحماني ما زال حيّاً ولم تُقتلع حنجرته؛ إلا أننا ما زلنا نشهد إصرار بعض الموسيقيين على إعادة تقديم الأغنية بناءً على قصة مقتل القاشوش، الذي قتل بالفعل ولكن دون أن يغني، ودون أن يكون هو صاحب الأغنية التي تعاطفوا معها.

الموسيقي السوري مالك جندلي قدّم عملاً موسيقياً خالصاً، عام 2012، أطلق عليه اسم "سيمفونية القاشوش" أو "الحرية"، استلهمه من إيقاع الأغنية ونغماتها البسيطة التي سمعها وحفظها معظم السوريين، ولم يزجّ كلمات الأغنية الأصلية فيها، فبقي بمنأى عما فعله أخيراً الموسيقي اللبناني بشار مارسيل خليفة الذي أعاد تقديمها كأغنية، لكن مع تعديل الكلمات، فاستبدل اسم بشار بعماد أو غدّار، وأصبحت "يلا ارحل يا عماد".

لعل الاعتماد على معلومة ناقصة هو الذي جعل من جندلي وخليفة يندفعان لإعلان التعاطف مع "زميلهما" الشعبي في المهنة، مهنة الموسيقى، وهذا ممكن. وربما السبب هو جاذبية القص واللصق في تلك الحكاية التي تكاد تتحول إلى أسطورة. إذ تم قص صوت المغني الحقيقي في ساحات حماة ولصقه على مآل القتيل، صاحب الحنجرة التي لم تصدح؛ جاذبية في تراجيديا موت المغني تثير بالتأكيد تعاطف الغرب، خصوصاً أنه معروف عن كل من الموسيقيَيْن أنهما يقدمان أعمالهما على مسارح غربية. وبالتالي، يمكننا الإشارة إلى أسباب تسويقية توفّرها الحكاية غير الحقيقية أكثر من الحقيقية نفسها، بما لا يقاس.

فلأسباب أمنية من دون شك، قبِل رحماني أن تنتشر أغنيته باسم شخص آخر بات في العالم الآخر، خوفاً من الاعتقال أو القتل. وفي ما بعد، تم تحريف أو التصرف بكلمات أغنيته مرتين، الأولى من قبل مؤيدي النظام الذين قلبوا كلماتها، التي سخرت بشكل واضح وصريح من رأس النظام السوري، لتصبح أغنية لتمجيده: "نحنا رجالك يا بشار"؛ والمرة الثانية على يد بشار خليفة الذي نال من النقد أو الانتقاد الكثير، ومردّ ذلك يعود إلى أنه مسّ كلمات باتت تعني الكثير للسوريين، وقام بتعديلات بدت غير مبررة وغير مفهومة الدلالات، فقال: "ويا عماد حاج تدور ودمك بالوطن مهدور، تضرب انت وحزب الفول، يلا ارحل يا غدّار". وفي كوبليه آخر: "يا قائد ويا جبان ويا عميل الرأس المال، الشعب الآدمي ما بينهان، يلا ارحل يا غدّار".

في عمل خليفة، ظهر مستوى الأغنية ضعيفاً أمام شعبوية الأهزوجة الثورية وعفويتها، وقد أعاد هذا العمل جدلاً قديماً تدور رحاه بين مفهومي الإسقاط والمباشرة في التعاطي مع قضايا الشعوب، لكن بشكل مشوّه أو مقلوب. فالمثقف الكلاسيكي كان يعتمد نهج الإسقاط والتبطين في محاولة لإيقاظ الشعب النائم على حقوقه، لكن عندما يقول الشعب كلمته بكل وضوح، ومن دون لبس أو مواربة، تنحو إسقاطات المثقف بعدها منحىً بلا قيمة عامة.

فالمواطن الذي قضى جزءاً من هذه المرحلة في المعتقل، وذاك الذي قتل ابنه، والآخر الذي تشرّدت عائلته ونزحت، لا وقت لديهم ليتساءلوا: من هو عماد في أغنية خليفة؟ وماذا يعني حزب الفول؟ وكم هي مؤثرة مفردة غدّار؟ أو مدغدِغة؟ وهل يشتم عميل رأس المال من البوابة الشيوعية الموروثة؟ إذ إن البسطاء ردّدوا مطالبهم بشكل واضح وصريح، وسمّوا الأشياء بمسمياتها، فما حاجتهم إلى تمويهها بمصطلحات مطاطة لا ترقى إلى إرضاء حاجتهم الأزلية في التحرر؟

أولئك الذين بقوا أحياءً أو غير معتقلين من الشبّان الذين استعانوا بهتافات الملاعب وعراضات الأعراس وحماس الزجل وبساطة التراث المحلي ليرفعوا أصواتهم سوية في نسقٍ واحد، لا نظنهم يأبهون كثيراً لمسألة حقوق النشر التي يرون فيها ترفاً إذا ما قارناها بما لم ينالوه من حقوق على مدى عقود طويلة. هم مسلوبو الحقوق أصلاً، ويبذلون كل ما في وسعهم ليتلمّسوها ويختبروها، فيلجؤون إلى أبسط وسائل المطالبة بها، أي أصواتهم وأغنياتهم البسيطة.

عدا عن ذلك، فهم غير معنيين بالبحث عن تصريحات الفنان للصحافة وتوضيحاته حول ما قصده هنا وأسقطه هناك، ولمن يهدي الأغنية. هذا الأمر لا يشكل حاجةً بالنسبة إليهم، إذ لا يمكن أن نرفق، مع كل حالة استماع لأغنية، ملصقاً دُوِّنت عليه مبرراتها، وتفنيدات التغيير فيها، ومغزى رؤية الفنان المجدد لها. فالعمل الفني يفترض أن يكون كياناً قائماً بذاته، والمساحة الوحيدة التي يقول فيها صاحبه ما يريد أن يقوله. وإن احتاج أحدهم إلى مؤتمر صحافي أو لقاء متلفز، فهذا أوضح البراهين على أن عمله ناقص، وعلى أن كل نقد يوجه له ليس قادماً من فراغ.

لم يتنكّر الشارع لـ "نجوم" الأغنية الملتزمة ـ كما كان يُطلق على مغنيّ القضايا الوطنية ـ كي يتنكّر لأي محاولة جديدة تصب في خانة دعمه. والدليل على ذلك الانتشار الكبير لأغنية "يا حيف" على ألسنة السوريين وفي مظاهراتهم. فبعد أن انتهى الفنان سميح شقير بساعات قليلة من تسجيلها كان نصف الشعب السوري يحفظها عن ظهر قلب، ويردّدها في درعا وحمص وحماة ودمشق وكل المحافظات التي شهدت حراكاً شعبياً في سورية، بينما لم يجد من بين ثلة راسخة منهم أي موقف داعم لمطالبهم، وعلى رأسهم مارسيل خليفة وزياد الرحباني، حيث اختار الأول الاختباء وراء تاريخه متردداً مثل ثري خائف على ثروته، فآثر ألا يجازف رغم سنوات طويلة اعتبر فيها من الطليعة الثورية الفنية، فيما لم يكن حال زياد الرحباني أحسن منه وتوارى بعيداً عمن كانوا يعتبرونه ممثلهم البليغ في السخرية من الأنظمة والسياسيين.

وفي المحصلة العامة، تطالعنا حالة من اليتم الفني اعترت المشهد بشكل عام، هي جزء من اليتم الإنساني الذي فُرض على الشعب السوري من قبل المجتمع الدولي. وبعد كل هذه السلسلة من الخذلان يظهر الممتعضون من أغنية "يلا ارحل يا عماد" وكأنهم يتنكّرون لـ "نعمة" التعاطف معهم ومع قضيتهم.

سوريون يعيشون في قاع العالم، غنّوا "حانن للحرية حانن.. يا شعب ببيتو مش آمن"، ثم "يا حيف" و"سكابا يا دموع العين سكابا.. على شُهدا سورية وشبابا" وغيرها، لا يصدّون من يشاركهم أغنيات الحرية، مثلما يفعلون عندما يقاسمهم ضيف عزيز طعامهم البسيط، شرط ألا يترفّع عن استخدام ملاعقهم وخبزهم وملحهم ومائهم، فيُخرج سكيناً ليمناه وشوكة ليسراه من جيب فكره الأرحب.

المساهمون