يكتبون تاريخ الاستبداد... في تونس

21 يونيو 2016

هيئة الحقيقة والكرامة في تونس تعلن ملفاتها (العربي الجديد)

+ الخط -
تتهيأ تونس، هذه الأيام، للشروع في كتابة تاريخ الاستبداد منذ تأسيس الدولة الوطنية وقد تلقت هيئة الحقيقة والكرامة، إلى يوم 15 يونيو/ حزيران الجاري، وهو آخر يوم لقبول الشكاوى، 65 ألف ملف تقدم بها خمسة آلاف مواطن. وذكرت الهيئة أن 73% من أصحاب الملفات هم رجال و23% نساء و4% ذوات معنوية. وأفادت بأن "مختلف العائلات السياسية والاجتماعية التي تعرّضت للاضطهاد، خلال الحقبات التاريخية التي حدّدها قانون العدالة الانتقالية (يوليو/ تموز1955 - 31 ديسمبر/ كانون أول 2013) قدّمت ملفاتها للهيئة، على غرار اليوسفيين والقوميين والإسلاميين واليساريين والاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية لحقوق الإنسان وعمادة المحامين ونقابة الصحافيين، إلى جانب جمعياتٍ حقوقيةٍ ناشطة في مجال الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان السياسية والاقتصادية ومناهضة التعذيب، إلى جانب "أقليات واجهت التمييز على أساس الدين أو اللون أو الثقافة، وتم استهدافها خلال الحقبة نفسها، قد أودعت أيضاً ملفاتها إلى الهيئة على غرار المجموعة اليهودية والسوداء والأمازيغ في تونس".
لأول مرة في تاريخ هذا البلد، يتوجّه المضطهدون، في مختلف العهود والاتجاهات، إلى هيئة مدنية، ويمكّنوها من عشرات الآلاف من الوثائق، ويحمّلونها مسؤولية الكشف عن الحقيقة، وإعادة الاعتبار لهم، وتحميل الجهات أو الأشخاص الذين ظلموهم في مرحلةٍ معينةٍ، ولم ينصفوهم أو يقدمون لهم حتى كلمات اعتذار.
لا يخلو أي نظام سياسي في التاريخ من الظلم، فكل الذين حكموا ارتكبوا مظالم خلال فترة حكمهم، لكنهم تفاوتوا في أحجام الانتهاكات ونوعيتها ووسائلها، فعلى المظلومين في ظل الأنظمة غير الديمقراطية أن يثوروا، حتى يتمكّنوا من تغيير قواعد الحكم، وتتوفّر لهم فرصة إبلاغ أصواتهم من خلال مؤسساتٍ تتمتع بالحد الأدنى من المصداقية. تكون المؤسسات في عهد الدكتاتورية دائماً مشلولة، وأبوابها مغلقة في وجه الذين انتهكت حقوقهم الأساسية. ولإسكات هذه الأصوات، تلجأ الأنظمة المستبدة إلى خنق حرية الإعلام، وتجويع المعارضين، وانتهاك حرمتهم الجسدية، وسجنهم، وإعدامهم أو اغتيالهم إذا لزم الأمر. لهذا، بمراجعة الإحصائيات التي كشفت عنها هيئة الحقيقة والكرامة، يُلاحظ أن الانتهاك الرئيسي لمختلف الحكومات التي تعاقبت في تونس سلّط أساساً على حرية التعبير والإعلام والنشر التي مثلت نسبة 59% من الانتهاكات، و(56%) تقريباً تعلق بـ "المنع من الارتزاق وأشكال الاعتداء على حق الشغل"، كما بلغت نسبة الشكاوى من التعرض "للتعذيب" والاعتداء على الحرمة الجسدية في أثناء الاحتجاجات والمظاهرات 50%.
كل الذين كتبوا التاريخ في ظل أنظمة الاستبداد لم يقولوا الحقيقة كاملةً، حتى لا يعرّضون أنفسهم لانتقام الحكام، أو أنهم شوّهوا التاريخ، وزوّروا الأحداث وفق أهواء المتسلطين على الدولة والمجتمع، أو أنهم أخفوا الوثائق والوقائع المزعجة. أما اليوم فجميع هذه الموانع اختفت في تونس، وبالتالي، أصبح في الوسع كتابة التاريخ بأعلى نسبةٍ من الموضوعية، وإن كانت هذه المهمة ليست موكولةً علمياً لأعضاء هذه الهيئة، وإنما هي، بالأساس، مهمة المؤرخين، باعتبارهم الأقدر منهجياً على فحص هذه الروايات، وتحليل تلك الآلاف من الوثائق، للتمييز بين الغث والسمين. إذ مهما توفرت الضمانات لكل من اعتقد أنه قد ظلم في مرحلةٍ ما، إلا أن ذلك ليس كافياً، في حد ذاته، للحكم على تلك الشهادات، بأنها تمثل الحقيقة الكاملة.
الأهم من كتابة تاريخ المظالم اعتراف مرتكبيها، وتقديمهم اعتذارهم للضحايا، ومعاقبة من أجرم في حق الناس والمجتمع والدولة، ووضع أسسٍ صحيحةٍ لتحقيق مصالحةٍ شاملة وعميقة، وخصوصاً وضع الضمانات الكفيلة بعدم تكرار هذه الانتهاكات. صحيح أن الجنوح نحو الظلم جزء من الطبيعة البشرية، لكن الكشف عن الماضي واستحضار نتائجه، إلى جانب وضع التشريعات وإقامة المؤسسات المقاومة لذلك الجنوح، هي آلياتٌ من شأنها أن تساعد على كبح العدوانية والتصدّي بقوة العقل والتربية والقانون، لمنع إعادة سنوات الجور واستباحة الأشخاص وثروات الوطن.

266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس