يريدون جرّ الجيش التونسي إلى السياسة

01 أكتوبر 2016

زهور في دبابة تونسية في أثناء الثورة (20 يناير/2011/Getty)

+ الخط -
ربما كان الجيش التونسي أحد أقل الجيوش العربية تسيساً ونزوعاً نحو التدخل في الشؤون العامة، أو الرغبة في الهيمنة على السلطة، وقد سنحت الفرصة أمام القيادات العسكرية التونسية إثر فرار المخلوع بن علي سنة 2011 لتولّي هرم السلطة، في ظل فراغ كل المواقع السيادية، وتراجع دور القوى الأمنية التي تخلت عن مراكزها، وأصبحت مستهدفةً من جمهور الشعب الثائر، بسبب ما ارتبط ببعض القوى الأمنية من سمعةٍ سيئةٍ، غير أن الجيش رفض استغلال الفرصة، وترك المجال فسيحاً للسياسيين، لتدبير الشأن العام.
وفي فترةٍ لاحقةٍ، في أثناء حكم الترويكا، حاولت قوى سياسية دفع الجيش إلى التحرّك وقطع الطريق أمام مسار الانتقال الديمقراطي، خصوصاً إثر الانقلاب العسكري في مصر، ولكن المؤسسة العسكرية ظلت محتفظةً بحياديتها والبقاء على المسافة نفسها من جميع القوى السياسية والحزبية، ولم تتحول إلى مخلب قط في الصراعات الحزبية المتصارعة، في تلك الفترة الحرجة.
تعود، اليوم، مسألة تسييس القوة العسكرية. ولكن، من مدخل جديد، هو الحق في التصويت والمشاركة في العملية السياسية في جانبها الانتخابي. وإذا كانت قوى أمنية قد انخرطت في اللعبة السياسية، وتحولت نقاباتها إلى شبه أحزابٍ غير معلنة، فقد حافظ الجيش، وفي كل المراحل التي تلت سقوط بن علي، على دوره الحيادي، بل وقام، بشكل حاسم، في تأمين مراكز الاقتراع وحماية الناخبين، وكان له الدور الأساسي في إنجاح كل التجارب الانتخابية المتلاحقة في تونس ما بعد الثورة. وهنا، يمكن التساؤل عن المغزى من طرح قضية الحق في الاقتراع لحاملي السلاح؟ وما الذي تهدف إليه القوى الحزبية التي تقف وراء هذا المسعى وتلح عليه؟
تكشف متابعة المشهد السياسي التونسي الحالي عن حالةٍ من الجمود والفشل في الحفاظ على الوحدة التنظيمية لدى أحزابٍ كثيرة، في مقدمتها "نداء تونس"، والذي يحاول جاهداً إبقاء هيمنته على السلطة بأي وسيلة، بما فيها رغبته في إشراك المؤسسة العسكرية في التصويت. وفي هذا، يتساوق مع قوى حزبية أخرى أصغر حجماً. وما يجمع كل هذه القوى رغبتها بإحداث ما تسميه التوازن مع حركة النهضة، على الرغم من أنه لا شيء يوحي بأن تصويت العسكريين أو الأمنيين سيصب في مصلحة هذه القوى، غير أن عامل التجاذب السياسي والبحث عن الإثارة الحزبية، ومحاولة الظهور بصورة القوة المدافعة عن العسكريين والأمنيين، تدفع هذه القوى الحزبية إلى اتخاذ مثل هذه المواقف المضطربة.
فمحاولة تسييس القوى العسكرية والأمنية، وفي ظل الأوضاع التي تشهدها البلاد بوصفها في مرحلة انتقال ديمقراطي، تعني مزيداً من تأزيم المشهد، ودفع الأمور نحو إفساد العلاقة بين السلطة التشريعية والقوى الأمنية والعسكرية. ففي كل الأحوال، إذا لم يتم تمرير القانون، ستظهر الأحزاب التي صوّتت ضده وكأنها في خصومةٍ مع حق منح العسكريين والأمنيين مزيداً من الحقوق السياسية.
وإذا كان الجيش التونسي، وهو الصامت الأكبر في هذا الجدل السياسي والحزبي المحتد، قد
ظل وفيا لتقاليده وانضباطه العسكري، برفضه الدخول في مهاترات جانبية، أو أن يكون موضوعاً لصراعات سياسوية ذات منحى شعبوي، فإنه من الممكن تلمس موقفه العام من خلال مؤشراتٍ ظهرت في مواقف قادة عسكريين سابقين رفضوا، وبشكل قطعي، لعبة زجّ الجيش في الصراعات الحزبية، ومعتبرين، عن حق، أن لدى الجيش أولويات أخرى، أهم من مجرد الاقتراع في الانتخابات، وأن المطلوب هو تلبية احتياجات العسكريين قبل التفكير في تحويل الثكنات إلى ساحاتٍ للصراع الحزبي والسياسي، فالجيش التونسي الذي رفض الانخراط في لعبة الأحلاف السياسية والصراعات الحزبية، وحافظ على رسالته الأولى، والمبدئية المتعلقة بحماية الوطن، يرفض كل أساليب التوظيف والإغراء من أجل تحويله إلى قاعدةٍ خلفيةٍ لأي حزب سياسي، أو شخصية حزبية، تسعى إلى ارتجال الزعامة من أجل الوصول إلى الحكم بأي ثمن، حتى بالتأثير على التماسك المعنوي ووحدة العقيدة العسكرية لدى الجيش الوطني.
بقي أن يُشار إلى أن وجود قوىَ أمنية مسيسة تدفع نحو الانخراط في العمل الحزبي، وهي، في الأساس، تتكون من ممثلي بعض النقابات الأمنية، هو، في النهاية، لن يخدم الصالح العام، بقدر ما يضيع الجهود الأمنية، ويشتت عملها بين واجباتها الأساسية في حماية الوطن والمواطن إلى الصراع حول المواقع السياسية، والانخراط في دائرة البراغماتية الحزبية، بمساوئها وآثارها السلبية المقيتة. وفي المقابل، يدرك الجيش الوطني أن محاولات توظيفه حزبياً، وتسخيره لخدمة أجندات سياسية ضيقة، وتعريضه للدعايات المرتبطة بالمصالح السياسية الآنية، ستؤثر على جاهزيته وقدرته على القيام بمهامه المركزية. أما الحجة التي يوردها بعضهم بشأن مشاركة بعض جيوش الدول الكبرى في الانتخابات، فتظل حجةً خارج السياق التاريخي و السياسي، فالمقارنة بين دول ذات ديمقراطيات عريقة وبنية سياسية راسخة ودولة في مرحلة الانتقال الديمقراطي فاسدة، وغير ممكنة أصلا. ولم تؤدّ تجارب تسييس الجيوش في الدول العربية، وفي العالم الثالث عموماً، إلا إلى كوارث سياسية، وولادة أجهزة حكم قمعية وتسلطية، والاستثناء الذي يميز الجيش التونسي في حمايته الثورة وانحيازه للشعب، باعتباره رمزاً للوحدة الوطنية، وله قيمة فوق ــ سياسية، ينبغي تثمينها، والحفاظ عليها قبل كل شيء.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.