09 نوفمبر 2024
يا أشقياء العالم اتحدوا
في حافلة نقل عامة، في برلين، كانت صبيتان تتحدثان بلغتهما العربية، وكان يجلس في المقعد المواجه لهما شاب زنجي من أصول إفريقية. كان الشاب يرمقهما بنظرات غاضبة، والشرر يتطاير من عينيه، ثم أخذ يهاجمهما بالكلام. استنكرت الصديقتان تصرفه، وحاولتا الرد عليه بهدوء، متسائلتين عن سبب هجومه غير المبرر عليهما، نحن لم نفعل لك شيئاً؟ رد الشاب بنبرة اتهامية فيها إدانة شديدة: أنتم العرب تجلبون لنا "داعش". فردّت إحداهما: وأنتم تجلبون "بوكو حرام". استنفر الشاب أكثر، وهمّ بالاعتداء الجسدي عليهما، لكن مواطنين ألماناً تدخلوا وأمسكوه عنهما، نزلت الصبيتان من الحافلة.
في برلين أيضاً، وفي وقت سابق ليس بعيداً، وأمام باب الصعود إلى حافلة، كانت امرأة محجبة تهم بالصعود إليها، فتلقت دفعة من امرأة أخرى أردتها أرضاً، لم تكن هذه ألمانية، بل من أصول آسيوية. حوادث عديدة من هذا النوع تقع في بلدان اللجوء التي تشكّل حلماً لغالبية أفراد المجتمعات والشعوب الفقيرة الواقعة تحت رحمة الاستبداد والتخلف والجهل، وارتهان مصائرها وسياسات أنظمتها إلى الخارج، كما أن غالبيتهم تركوا بلدانهم، هاربين من الاقتتال والعنف والحروب والفاقة وانعدام الأمان وانغلاق أفق المستقبل في وجوههم.
اللافت هو الغضب والإدانة من هؤلاء الأشخاص تجاه من يشبهونهم، وتحميلهم مسؤولية تهديد وجودهم في بلدان اللجوء. كم من الوقت يلزم تلك الشعوب المضطهدة المهانة المسلوبة لإرادتها ولقدرتها على التفكير والإبداع، لتتعلم مفردات التعايش والعيش؟ هم جاءوا هاربين يقصدون النجاة بأرواحهم بالدرجة الأولى، وما إن استقروا وشعروا بالأمان، وبكفاف عيشهم، حتى ركنوا إلى الحياة الجديدة، منطوين على ما تجذّر في أعماقهم من ثقافةٍ أنشأتها ظروف حياتهم السابقة، وشروطها المحكومة مسبقاً بآليات التسلط والإكراه والغصب باسم المقدس الديني والاجتماعي والسياسي. لا يميّزون بين الجلاد والضحية، بل يوجهون غضبهم وسخطهم إلى الذين يشبهونهم في ظروفهم وشروطهم التاريخية، لا يعنيهم ما يحدث هناك في أي بقعة من العالم أكثر مما يمكن أن يزرع الخوف من فقدان ما اكتسبوه، بعد يأس من احتمال العيش، في البلدان الجديدة.
ثمة استدعاء غريب لذاكرة الخنوع والرضوخ والإعجاب بنزعة الاستبداد. ليس هذا فحسب، بل ثمة انغلاق أفق، وعجز متوارث عن إعمال الفكر والمخيلة بطريقة مجدية، سببته قرون وعقود من الجهل والتغييب والتغريب، قامت بها أنظمة قمعية سياسية واجتماعية ودينية. هؤلاء
الأشخاص الذين ينحدرون من مناطق موتورة يعمها النزاع والاقتتال والفتن، لجأوا إلى دول ومجتمعات مستقرة، هي، بحد ذاتها، حلم كل فرد منهم، لكنه حلم الكسالى الذين يريدون الوصول والتنعم بما تقدم هذه البلدان لمواطنيها من دون أن يفكّروا بالسبب أو بالنتيجة. ثقافة الاستبداد تشوّه ملامح الإنسان، تفقده إدراكه نفسه وتسلبه الثقة بها، وتجعله أسير المفاهيم العامة والقيم التي ترسّخها، فلا يعود الفرد يميز بين هويته الحالية وصورة الهوية الصحيحة الملائمة لإنسانيته، والتي هي من حقه، بل لا يعرف التمييز بين حقوقه وواجباته، لأنه لم يتعلم غير الخضوع والخنوع تحت سلطة السيف.
لا يعرف هذا الفرد، الممتلئ بالخيبات حدّ التخمة، أن داعش هو لعبة الأمم الحالية الأكبر والأخطر، وأنها ليست صناعة الشعوب العربية، ولا صناعة دين الإسلام الحقيقي، بل هو تشويه للدين وتحريف للنصوص عن معناها الحقيقي وغايتها، كل ما يعرفه أن هذا الكيان هو الوحش الذي يفتك بالبشرية، ويصب جام غضبه على هذا الغرب الذي يؤويه، وأنه مترافق بعبارة الله أكبر العربية، وراياته السوداء مطرزة بالعبارة العربية نفسها، هو واقع خطير يهدده ويهدد أمنه وأمن أطفاله، ويحرمهم من حق الحياة، ولأنه منحدر من مناطق تحكمها شروط الاستبداد، فهو لا يعرف أن يصنف الأفراد إلاّ بموجب المفاهيم العامة التي تلقاها وتشربها في بلاده، فكل عربي بالنسبة إليه هو مسؤول عن داعش، ويتحمل جزءًا من مسؤولية جرائمها، وهو بالتالي، أي هذا العربي، سوف يحرمه فرصته التي حظي بها في بلد اللجوء، فيوجه رفضه وغضبه إليه، مثلما كان في بلاده يزج به في اقتتال أو فتنةٍ، بينما المستبد الذي يحكمه يرسّخ حكمه، واستبداده، باقتتال أفراد المجتمع فيما بينهم.
هذا الالتباس الكبير بين ملامح الجلاد والضحية هو عنوان إشكالية كبيرة في بيئة ثقافيةٍ، لم تتوفر لديها القدرة على اكتشاف أدوات أكثر مقاربةً، وفهماً لإنسانية الإنسان، "تعين على رسم حدود فاصلة ومهمة ومقروءة بعناية بين ملامح خضعت للتشويه حد الالتباس والتمويه".
هي ثقافة الاستبداد، وماضي القمع الذي سلب أفراد الشعوب المضطهدة والمقهورة قدرتها على إنتاج الحياة، ثقافة العقائد الشمولية التي تغلف أدمغة الأفراد بقشرة سميكة، لا يخترقها غير المقدس من الأفكار، بدعوى الدين حيناً، والقومية حيناً آخر، كم يلزم هؤلاء الأفراد الفارين من جحيم أوطانهم من الوقت كي يتعلموا المفاهيم والقيم والمبادئ التي تقوم عليها المجتمعات في الدول الديموقراطية؟ هذه القيم والمفاهيم التي صنعتها تجارب تلك الشعوب، واختمرت خلال الزمن، حتى صارت ثقافة وسلوكاً، بل صارت أساليب وطرق عيش. كم يلزمهم من الوقت لكي يقتلوا الجلاد الصغير الكامن في أعماق نفوسهم، دليلاً راسخاً على صناعة أنظمة عنفية رهيبة؟ وليس الموضع، هنا، مناقشة سياسة الدول الكبرى ومطامعها في بلداننا أو البلدان التي تشبهنا، فهذا أمر آخر، إنما المكان لتسليط الضوء على الأمراض المزمنة، المتمكنة من أفراد تلك الشعوب، والتي اشتغل عليها الاستبداد الديني والسياسي والاجتماعي عقوداً طويلة، حتى صار المواطن فيها مشلول التفكير والمخيلة، يوجه حربه على من هم مثله، واقعين تحت نير الاستبداد، مثلما لو كان متماهياً مع الجلاد المزروع في أعماق نفسه.
في برلين أيضاً، وفي وقت سابق ليس بعيداً، وأمام باب الصعود إلى حافلة، كانت امرأة محجبة تهم بالصعود إليها، فتلقت دفعة من امرأة أخرى أردتها أرضاً، لم تكن هذه ألمانية، بل من أصول آسيوية. حوادث عديدة من هذا النوع تقع في بلدان اللجوء التي تشكّل حلماً لغالبية أفراد المجتمعات والشعوب الفقيرة الواقعة تحت رحمة الاستبداد والتخلف والجهل، وارتهان مصائرها وسياسات أنظمتها إلى الخارج، كما أن غالبيتهم تركوا بلدانهم، هاربين من الاقتتال والعنف والحروب والفاقة وانعدام الأمان وانغلاق أفق المستقبل في وجوههم.
اللافت هو الغضب والإدانة من هؤلاء الأشخاص تجاه من يشبهونهم، وتحميلهم مسؤولية تهديد وجودهم في بلدان اللجوء. كم من الوقت يلزم تلك الشعوب المضطهدة المهانة المسلوبة لإرادتها ولقدرتها على التفكير والإبداع، لتتعلم مفردات التعايش والعيش؟ هم جاءوا هاربين يقصدون النجاة بأرواحهم بالدرجة الأولى، وما إن استقروا وشعروا بالأمان، وبكفاف عيشهم، حتى ركنوا إلى الحياة الجديدة، منطوين على ما تجذّر في أعماقهم من ثقافةٍ أنشأتها ظروف حياتهم السابقة، وشروطها المحكومة مسبقاً بآليات التسلط والإكراه والغصب باسم المقدس الديني والاجتماعي والسياسي. لا يميّزون بين الجلاد والضحية، بل يوجهون غضبهم وسخطهم إلى الذين يشبهونهم في ظروفهم وشروطهم التاريخية، لا يعنيهم ما يحدث هناك في أي بقعة من العالم أكثر مما يمكن أن يزرع الخوف من فقدان ما اكتسبوه، بعد يأس من احتمال العيش، في البلدان الجديدة.
ثمة استدعاء غريب لذاكرة الخنوع والرضوخ والإعجاب بنزعة الاستبداد. ليس هذا فحسب، بل ثمة انغلاق أفق، وعجز متوارث عن إعمال الفكر والمخيلة بطريقة مجدية، سببته قرون وعقود من الجهل والتغييب والتغريب، قامت بها أنظمة قمعية سياسية واجتماعية ودينية. هؤلاء
لا يعرف هذا الفرد، الممتلئ بالخيبات حدّ التخمة، أن داعش هو لعبة الأمم الحالية الأكبر والأخطر، وأنها ليست صناعة الشعوب العربية، ولا صناعة دين الإسلام الحقيقي، بل هو تشويه للدين وتحريف للنصوص عن معناها الحقيقي وغايتها، كل ما يعرفه أن هذا الكيان هو الوحش الذي يفتك بالبشرية، ويصب جام غضبه على هذا الغرب الذي يؤويه، وأنه مترافق بعبارة الله أكبر العربية، وراياته السوداء مطرزة بالعبارة العربية نفسها، هو واقع خطير يهدده ويهدد أمنه وأمن أطفاله، ويحرمهم من حق الحياة، ولأنه منحدر من مناطق تحكمها شروط الاستبداد، فهو لا يعرف أن يصنف الأفراد إلاّ بموجب المفاهيم العامة التي تلقاها وتشربها في بلاده، فكل عربي بالنسبة إليه هو مسؤول عن داعش، ويتحمل جزءًا من مسؤولية جرائمها، وهو بالتالي، أي هذا العربي، سوف يحرمه فرصته التي حظي بها في بلد اللجوء، فيوجه رفضه وغضبه إليه، مثلما كان في بلاده يزج به في اقتتال أو فتنةٍ، بينما المستبد الذي يحكمه يرسّخ حكمه، واستبداده، باقتتال أفراد المجتمع فيما بينهم.
هذا الالتباس الكبير بين ملامح الجلاد والضحية هو عنوان إشكالية كبيرة في بيئة ثقافيةٍ، لم تتوفر لديها القدرة على اكتشاف أدوات أكثر مقاربةً، وفهماً لإنسانية الإنسان، "تعين على رسم حدود فاصلة ومهمة ومقروءة بعناية بين ملامح خضعت للتشويه حد الالتباس والتمويه".
هي ثقافة الاستبداد، وماضي القمع الذي سلب أفراد الشعوب المضطهدة والمقهورة قدرتها على إنتاج الحياة، ثقافة العقائد الشمولية التي تغلف أدمغة الأفراد بقشرة سميكة، لا يخترقها غير المقدس من الأفكار، بدعوى الدين حيناً، والقومية حيناً آخر، كم يلزم هؤلاء الأفراد الفارين من جحيم أوطانهم من الوقت كي يتعلموا المفاهيم والقيم والمبادئ التي تقوم عليها المجتمعات في الدول الديموقراطية؟ هذه القيم والمفاهيم التي صنعتها تجارب تلك الشعوب، واختمرت خلال الزمن، حتى صارت ثقافة وسلوكاً، بل صارت أساليب وطرق عيش. كم يلزمهم من الوقت لكي يقتلوا الجلاد الصغير الكامن في أعماق نفوسهم، دليلاً راسخاً على صناعة أنظمة عنفية رهيبة؟ وليس الموضع، هنا، مناقشة سياسة الدول الكبرى ومطامعها في بلداننا أو البلدان التي تشبهنا، فهذا أمر آخر، إنما المكان لتسليط الضوء على الأمراض المزمنة، المتمكنة من أفراد تلك الشعوب، والتي اشتغل عليها الاستبداد الديني والسياسي والاجتماعي عقوداً طويلة، حتى صار المواطن فيها مشلول التفكير والمخيلة، يوجه حربه على من هم مثله، واقعين تحت نير الاستبداد، مثلما لو كان متماهياً مع الجلاد المزروع في أعماق نفسه.
دلالات
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024