وهربت أمي

30 ديسمبر 2014
تريد أن تتذكر ذلك الصوت (Getty)
+ الخط -
هربت أمها مع جارهم العشرينيّ بعد أشهر علی ولادتها، وأصبح الحديث عن الأم محظوراً. لا أحد يتذكرها أو يتحدث عنها خيراً أو شراً. اتفق الجميع علی نسيان فكرة وجودها أساساً. لم يجرؤ الجيران وأهالي القرية علی ذكر سيرتها أمام الطفلة، حتى كبرت وهي متيقنة أنّ والدها أنجبها. لم تصدق يوماً أن الآباء لا ينجبون، كما أخبرتها عمتها مراراً. 

لم تقتنع بكلام عمتها، ولكن الأرق لم يفارقها يوماً. تسأل نفسها كل ليلة: "إن لم ينجبني والدي، فمَ!ن أنجبني إذاً؟"، تأتيها الإجابة نفسها كل مرة. يستحيل أن تخرج من جسد غير جسده. الحقائق البيولوجية لا تعنيها. هذه قناعتها، ولن تقبل النقاش في الأمر. في الوقت عينه، تعلم في سرّها أن شيئاً ما كان ينقصها، ولكنها لم تقدر أن تحدد ماهيته. باغتتها الأفكار دائماً، فحاولت تجاهلها.

رأت بطاقة هويتها للمرة الأولى عندما بلغت الخامسة عشر ربيعاً، أثناء تقديم امتحانات الشهادة المتوسطة. كانوا قد أخفوها عنها طوال تلك السنين. قرأت اسماً غريباً في خانة اسم الأم. لم تكن مميّزة عن باقي الأطفال إذاً، ولم ينجبها والدها. تسأل نفسها، كيف لها أن تولد من جسد امرأة لا تعرف حتی رائحتها. إن كانت هذه أمها حقاً، فلمَ لا يبدو الاسم مألوفاً أبداً؟ تتساءل وتفكر: "كيف كان شكلها، صوتها، ورائحتها عندما حضنتها للمرة الأولى"؟

مرّ شريط حياتها أمامها في تلك اللحظات. سألت نفسها: مَن هي هذه المرأة؟ بحثت عنها في ذاكرة المرض، والحزن والوحدة أحياناً، لم تجدها. فتّشت عنها في اليوم الأول لها في المدرسة، عندما تنافست على البكاء والصراخ مع زملائها، وتغلّبت عليهم. لم تجدها. فتشت عنها يوم أتتها العادة الشهرية للمرة الأولى، واحتاجت حناناً أو كوباً من النعناع حتى، لم تجدها. فتشت عنها في كل الأعياد، عندما احتاجت مَن يصفّف شعرها، لم تجدها. فتشت عنها عندما أحبت صديقها في عمر العاشرة، ولم تعرف أن تختار له هدية، ولم تجدها أيضاً.

تشعر بالاختناق، تفكر: "إن كنت أملك أمّاً، فلا بدّ أن أجد صوراً لنا معاً". صورة للأم وحدها علی الأقل. يؤلمها أنها لا تجد في ذاكرتها صورة واحدة وهي في رحم أمها. هل من العدل أن تفقد كل تلك الذكريات؟ تسعة أشهر ليست بالوقت القصير، فلمَ لا تذكر شيئاً إذاً؟ تخيّلت صورة لها في رحم أمها. الأم والابنة يتشاركان الطعام، والدفء، والمكان. ينحني والدها علی بطن أمها، ويقبله. يقبلها هي إذاً. يقبّل الاثنتين معاً. لا صورة. يقولون إن الجنين يسمع صوت أمه وهو في رحمها. تريد أن تتذكر ذلك الصوت.

حاولت البحث عن صورة أخری في الأشهر الأولى لولادتها. تخيّلت أمها في قميص نوم أبيض ووجه متعرّق، تحتضنها للمرة الأولى، وتبتسم. ثم تخيلت والدها ينحني، ويقبّلها. يشبك إصبعه الأصغر بيدها، ويلتفت نحو أمها. هو أيضاً يبتسم. لم تجد الصورة. لم تجدها في صور الماضي والحاضر. والأبشع أنّها لم تجدها في صور المستقبل حتى.

دلالات
المساهمون