وزير العدالة الانتقالية.. "إنتي جاية اشتغلي إيه"؟
مفهوم العدالة الانتقالية transitional justice ليس جديداً. ظهر على استحياء في مصر، بعد ثورة 25 يناير. سمعته كثيرا في أحاديث الزميل، ناصر أمين، سواء في الأحاديث الإعلامية، أو الأكاديمية والبحثية وكل المؤتمرات التي تتحدث عن كيفية الإصلاح والبناء بعد حدوث الثورات. وبالفعل، إن بحث شخصٌ وقرأ في التاريخ، أو في تجارب الشعوب الأخرى، لن يجد أي أمة تقدمت ونهضت وتجاوزت محنتها، إلا بعد تطبيقها مفهوم العدالة الانتقالية. والأمثلة كثيرة في العالم، ومنها في العصر الحديث تجارب بارزة، وهي، مثلاً لا حصراً، إنهاء الصراع الدموي الطائفي الذي استمر عشرات السنوات في إيرلندا، وكان للعدالة الانتقالية الدور الأكبر في بناء النظام الجديد على أساس سليم في بولندا بعد الثورة.
وبسبب مفهوم العدالة الانتقالية، جلس رجال النظام الذي قامت ضده ثورة مع رجال الثورة على طاولة واحدة، للاتفاق على ترتيبات انتقال السلطة، وتحويلها نحو الديمقراطية. وحدث ذلك، أيضاً، من قبل في ألمانيا، بعد هدم سور برلين، وانهيار النظام الشيوعي. أما المثال الأكبر والأوضح على العدالة الانتقالية، فكان مثال جنوب أفريقيا؛ حيث تم التوصل إلى منظومة حكم ديمقراطي، بالاتفاق بين نظام الفصل العنصري والأغلبية من السود الذين كان يتم اضطهادهم. وحدث ذلك بعد سنوات طويلة من القمع والاستبداد، وأيضاً، المقاومة المسلحة والصراع المسلح وسقوط آلاف الضحايا.
والعدالة الانتقالية، بمنتهى البساطة، هي رفع المظالم وجبر الضرر، وقف الصراع الصفري والوصول إلى حل وسط، أو اتفاق وتعويض الضحايا وإصلاح ما تم إفساده، الاعتراف بالجريمة، وكشفها في مقابل تخفيف العقوبة، ورد المظالم وما تم نهبه من أموال الشعب في مقابل العفو وبدء صفحة جديدة.
العدالة الانتقالية هي الوصول إلى اتفاق بين الجميع، بعد سنوات من الصراع الذي قد يكون دموياً مدمراً. هي بدء صفحة جديدة مع الجميع، وبدء حياة جديدة قائمة على ثقافة التسامح، ومبدأ التعايش، وقبول الآخر، واحترام الاختلاف، وكيفية حل الخلافات سلمياً. العنف لن يؤدي إلا إلى عنف مضاد، والانتقام لن يؤدي إلا إلى انتقام مضاد، فكل طرف يرى أن معه الحقيقة المطلقة. ولذلك، لا حل للأزمة، إلا بعد الجلوس على طاولة واحدة مع الخصم، والوصول إلى حل بعد تنازلات كثيرة، يقدمها كل طرف، من أجل مصلحة الجميع، ومن أجل بدء حياة جديدة تخلو من الظلم.
وقد كنت ساذجاً، عندما تفاءلت بعد "30 يونيو"، عندما تم تعيين وزير للعدالة الانتقالية في مصر. كنت ساذجاً، عندما تصورت أن الحديث عن العدالة الانتقالية ليس عيباً في مصر. كنت ساذجاً عندما تصورت أنه قد يكون هناك شخص ما عاقل، قد يدفع في اتجاه العدالة الانتقالية التي كان يجب البدء في إجراءاتها بعد 11 فبراير/شباط 2011، فهي، كما ذكرت، عودة الأموال المنهوبة، وكشف الحقيقة، وهي أن يعيش الجميع في سلام، بعد الاعتراف بالأخطاء وتغيير المنظومة، بما يضمن عدم تكرار الأخطاء مرة أخرى. ولكن، ما حدث في مصر هو إفراغ الشيء من مضمونه، كما حدث في الدستور، ويحدث مع كل شيء في مصر، فليس لوزارة العدالة الانتقالية أي علاقة بالعدالة الانتقالية. ووزيرها لا يهتم، أساساً، بها، أو حتى دراسة مفهومها وتجاربها، ولا يعرف عنها شيئاً.
ليس من مهام وزارة العدالة الانتقالية في مصر استعادة أي أموال منهوبة، ولا كشف الجرائم، ولا البحث عن حقيقة، ولا جبر الضرر، ولا تعويض الضحايا، ولا تحقيق نظام عادل، ولا وقف الظلم، وتعديل التشريعات الظالمة والفاسدة، ولا تحقيق السلام الأهلي، ولا بدء حياة جديدة، ولا بدء الإجراءات التدريجية الانتقالية نحو احتواء الجميع، ودمج الكل، مرة أخرى، في الحياة بعد الاعتراف، وبعد جبر الضرر ورفع الظلم. وزير العدالة الانتقالية لا يهتم بأي عدالة ولا أي انتقالية. وزارة العدالة الانتقالية تعمل فقط على إعداد مشروعات قوانين، يُلقي عبد الفتاح السيسي معظمها في الزبالة، ولا يتم إقرار فقط إلا القوانين التي تتحدث عن تسهيل الاستثمار، وفض منازعات الاستثمار، وقانون الاستثمار الموحد.
يعمل وزير العدالة الانتقالية في هيئة تشجيع الاستثمار، وليس كوزير عدالة انتقالية، ويعمل أيضاً على تبييض وجه وزارة الداخلية، والدفاع عن الانتهاكات والظلم، وليس وقفهما. يقابل الوفود الدبلوماسية، ويسافر إلى جنيف، ليقول للعالم كله إن كل شيء زي الفل، وإنه لا توجد انتهاكات في السجون، ولا محاكمات ظالمة ولا قوانين جائرة. وزير العدالة الانتقالية يدعم الفساد، ويدافع عنه، بدلا من أن يقوم بمهمته في كشف الفساد، أو استرجاع الأموال المنهوبة التي تقدر بمليارات الدولارات، والتي تم نهبها في عهد حسني مبارك، والتي يتعجب مسؤولو الدول الأوروبية لماذا لا تبذل الحكومة المصرية أي مجهود في استعادة تلك الأموال، حتى الآن. وزير العدالة الانتقالية لا يعلم شيئاً عن أي عدالة ولا انتقالية. وزير العدالة الانتقالية... إنتي جاية اشتغلي إيه؟