ما زال بيت الشاعر والأديب، والمناضل القومي العروبي اللبناني وديع البستاني، صامداً في حيفا. ويقع عند ملتقى جبل الكرمل وشاطئ حيفا، على بعد خمسين متراً من شاطئ تل السمك، في حي "وادي الجِمال" العربي العريق في المدينة الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948. وبقيت شجرات النخيل راسخة في أرض مدخل البناية، التي قام بتصميمها المعماري إميل البستاني في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي.
الحجر وبلاط البيت ودرابزين الشرفة والعمارة، كلّها بفنها الشرقي، باقية بمثابة شاهد حيّ على إرث وديع البستاني، وهي مكوّنة من ثلاثة طوابق وفيها ستّ شقق على شكل سفينة.
تميّز وديع البستاني بتعدّد مواهبه، فكان شاعراً وكاتباً وخطيباً ومترجماً يجيد عدّة لغات، إلى جانب كونه المحامي المثقف الناقد والمناضل القومي العروبي.
ولد البستاني في قرية الدبية في لبنان عام 1888 ووصل إلى حيفا عام 1917، بهدف العمل في فترة كانت فيها هذه المدينة في أوج ازدهارها.
ولدى زيارة "العربي الجديد" إلى بنايته وبيته، الذي أصبح "مطرانية الموارنة" في حيفا اليوم، لوحظ أن إرث البستاني ما يزال محفوظاً، حتى في التفاصيل الصغيرة كالدرج والموقد داخل البيت والشبابيك الخشبية والأبواب والأرضية، التي ظلّت كما هي.
وعن دور البستاني النضالي في حيفا يقول المؤرخ جوني منصور ابن المدينة: "تميزت شخصية وديع البستاني بالشفافية والحب الصادق لفلسطين، وبذل كل ما يمكن بذله في سبيلها شعباً وأرضها. ويعتبر من أوائل من تصدّوا لـ "الانتداب" البريطاني لفلسطين بالدراسة والتظاهر والاعتصام والنشاط السياسي. وهو من أوائل من رسم خطوط الوحدة الوطنية الإسلامية - المسيحية".
أشار منصور إلى أن "البستاني حصل على البكالوريوس من قسم الآداب والعلوم في الجامعة الأميركية ببيروت، وترجم عدة كتب من الأدب الإنكليزي إلى العربية. وفي عام 1911 عندما سافر إلى لندن، اطلع على رباعيات الخيام وترجمها إلى العربية، ونشرها في القاهرة وأعيدت طباعتها عدة مرات".
عمل وديع البستاني بعد وصوله إلى حيفا موظفاً في "الانتداب" البريطاني، ولكن بعد اتضح له دور هذا "الانتداب" السياسي استقال من وظيفته. ومن ثم انضم إلى صفوف الحركة الوطنية العربية، وأصبح من قياداتها في مدينة حيفا، وعمل على مقاومة البريطانيين والمشروع الصهيوني من بعدهم.
ووفقاً لما يقوله منصور، وصل البستاني إلى حيفا عام 1917 وكان له ثلاثة أبناء وبنت واحدة. وقامت حفيدته التي تحمل الجنسية الأميركية، بزيارة المدينة قبل سبعة أعوام، وكان جلّ اهتمامها ينصب حول تجميع ومعرفة تفاصيل أكثر عن جدها.
رفض وديع البستاني البقاء في حيفا بعد سقوطها عام النكبة (1948)، وعن ذلك يقول جوني منصور: "شهد البستاني معركة حيفا وسقوطها بيد العصابات الصهيونية من "الهاغاناه"، وما اقترفته من جرائم في حق فلسطين وشعبها، وهالته المآسي التي حلت بأبناء المدينة، وهو المدافع عنها وعن شعبها منذ ثلاثين عاماً، فالتزم بيته ولم يغادره"، ويضيف: "دخلت عناصر من عصابات "الهاغاناه" بيته، وأسكنت فيه بعض أُسر المستوطنين المهاجرين".
وُضِع أبو فؤاد (كُنية البستاني) تحت الرّقابة، ومُنع من التحرك مدة طويلة. أما أبناؤه، فكان قد أرسلهم إلى بيروت ريثما تهدأ الأحوال. لم يتأقلم البستاني مع الحالة السياسيّة والإداريّة الجديدة في زمن الاحتلال، فترك حيفا عائداً إلى بيروت عام 1953، ليخطفه الموت بعد ذلك بسنة واحدة، في القرية الّتي ولد فيها.
في السياق ذاته يقول المهندس المعماري وليد كركبي: "تم بناء البناية في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي بطراز الأرت ديكو. وصممها المهندس المعماري إميل البستاني وهو ابن أخي وديع ودرس في بوسطن في الولايات المتحدة".
وفي حديث مع الأب سليم سوسان ابن قرية برعم من أبرشية الموارنة في حيفا قال: "وديع البستاني قام بتسليم البيت لوقف الكنيسة المارونية لرعية مار لويس في حيفا لتحافظ على البيت وتم تسجيل البيت للوقف في عام 1952 أو 1953.
وفي عام 1996 أقيمت أبرشية خاصة تحمل اسم "حيفا والأراضي المقدسة للموارنة". قبل ذلك كنا تابعين لأبرشية صور في لبنان. والرعية قدمت الجهة الغربية من البناية للمطرانية. ويقطن فيها مطران الأبرشية وأساقفة وفي الطابق الأول المحكمة الدينية للأبرشية".
ويضيف الأب سوسان: "الإنسان قبل الحجر والمكان، والأستاذ وديع البستاني من الشخصيات المرموقة في حيفا والمنطقة ومواقفه السياسية والاجتماعية وقيمته الأدبية معروفة، ونحن كرعية نحفظ هذا الإرث الفكري والاجتماعي والديني وطبعا البناء له أهمية".
مترجم الآداب الشرقية
من مؤلفات وترجمات البستاني:"السعادة والسلام" (1910)، و"رباعيات عمر الخيام" (1912)، و"محاسن الطبيعة وعجائب الكون" (1913)، و"رباعيات الحرب" (1916)، و"مسرات الحياة" (1926)، و"الانتداب الفلسطيني باطل ومحال" (1936)، و"ديوان الفلسطينيات" (1946)، و"خمسون عاماً في فلسطين" (1947)، و"رابندرانات طاغور" (1950)، و"المهبراتة: الملحمة الهندوية" (1952)، و"نالا ودامينتي: تمثيلية سنسكرتية" (1966).