تبدو فكرة المجتمع المدني للوهلة الأولى سهلة التعريف لكن ما إن نبدأ محاولة تقديم تعريف للمصطلح، حتى نصطدم بعدة عقبات فكرية وسياسية وأيديولوجية، ورغم أن المفاهيم المتّصلة بالمجتمع المدني قديمة قدم التفكير في المجتمع إلا أن هناك سقوطاً من المعاجم بتعبير د.عزمي بشارة يجعل هذا المفهوم حديثاً مرتبطاً أساساً بالحداثة زمناً وثقافةً، بل إن مايكل إدواردز صاحب كتاب: "المجتمع المدني: النظرية والممارسة" يرجع احتلال مفهوم المجتمع المدني للصدارة إلى السنوات القليلة الماضية مرجعاً الأمر لعدة أسباب أهمها انهيار الشيوعية والانفتاح على الديمقراطية، والقضاء على وهم وجود نماذج اقتصادية وسياسية من الماضي، والرغبة الملحة للتواجد في مجتمعات حيث يشعر الفرد فيها بالأمان.
يحاول إدواردز إمساك هذه "الفكرة العظيمة" من خلال تقديم طغمة من التعريفات التي لم تزد الأمر إلا إشكالاً فرغم تعدد تلك التعاريف إلا أنها لم تعكس إلا وجهة نظر أصحابها الفكري أو المؤسساتي، فكلها تعريفات تُظهر مدى توظيف هذه الجهات فكرة المجتمع المدني لخدمة أغراضها الشخصية وتقديم رؤاها الخاصة لحل معضلات اجتماعية وسياسية.
على كل يمكن تصنيف أولئك الذين يدّعون امتلاك ناصية هذه الفكرة إلى ثلاث جهات، إحداها تقول بكون المجتمع المدني منتجا من منتجات الدولة القومية والرأسمالية، وأخرى، تعبّر عن كونه تعبيراً عالميّاً عن الحياة الجماعية للأفراد العاملين والناشطين في جميع البلدان، ثم أخيراً تلك التي ترى بضرورة أن يكون المجتمع المدني ثالث القطاعات بعد الدولة والسوق منفصلاً عن الأخيرين ومستقلاً. ورغم كل ذلك الاختلاف والهلامية التي تحيط به فإن كتاب إدواردز ليس كتاباً نظرياً ولا تاريخياً نقديا لمفهوم المجتمع المدني، فحتى تتبع تلك الأدبيات التاريخانية لن ينتج لنا إجماعاً واضحاً حول هذه الفكرة، لذا يكتفي المؤلف برصد ثلاث مدارس فكرية نتجت عن هذا التباين في التاريخ الفكري للمفهوم.
فهناك مدرسة تنظر للمجتمع المدني بوصفه جزءاً من المجتمع، وهي مدرسة توكفيل الجديدة وهي الأكثر انتشاراً والأكثر استفادة من التغيرات السياسية والأيديولوجية فهي ترتكز بالأساس على الحياة الترابطية وتقوم على وجود نزعة إنسانية للمشاركة في نشاطات جماعية، وهذه الروح الرومانسية هي التي بثها توكفيل خلال رحلاته إلى الولايات المتحدة واصفاً الأميركيين بأن "لديهم نزعة قوية لتشكيل روابط وجمعيات" وتمتد هذه النظرة من المنظرين الاجتماعيين إلى السياسيين؛ فالمحافظون يجدون في الحياة الترابطية إمكانية لإعادة الاعتبار للقيم التقليدية الأخلاقية وعلى الطرف الآخر يرى التقدميون أنها وسيلة لإعادة خلق مجتمعات أخرى.
ثم هناك المدرسة التي ترى في المجتمع المدني مجتمعاً صالحاً، وتنظر هذه المدرسة للمجتمع بوصفه نوعا مجتمعياً يتميّز بمعايير تنظر لهذا المجتمع المدني بوصفه نظاما اجتماعيا مرغوباً، وبالرغم من الاختلاف حول هذا النظام إلا أن معايير مثل التسامح وعدم التمييز والتعاون والثقة ومحاربة الفقر وإحياء القيم الديمقراطية وغيرها تشكّل مشتركاً عاماً، فالمجتمع المدني هو نوع من "مأسسة السلوك المتمدّن" وهذه النظرة قديمة قدم كلمة التمدّن نفسها، من بداية وجود مجتمع المدينة لدى اليونان إلى العقائد الدينية وحتى لدى الفلاسفة أمثال كانط في رؤيته لمجتمع أخلاقي عولمي وغيره.
أما المدرسة الثالثة أي المجتمع المدنيّ متجسّداً في المجال العام الذي يجعل المجتمع المدني "الميدان للمحاجة والتداول وأيضاً للترابط والتعاون المؤسسي: فضاء عاماً غير تشريعي وخارجاً عن نطاق القضاء فيه يجري عرض قضايا الفوارق المجتمعية والمشكلات الاجتماعية، والسياسة العامة، وعمل الحكومة وأمور تتعلق بالمجتمع الأهلي والهوية الثقافية، والنقاش حولها". وهذا النقاش لا ينبغي أن يعرض فقط الأعلى صوتاً ويسكت وجهات النظر البديلة بالقمع والإقصاء بل ينبغي أن يكون نقاشاً مبنياً على قاعدة عريضة متمثلة في معرفة وتحديد المصلحة العامة، وبهذا نكوّن مادة صلبة للديمقراطية. ورغم كل النقد الموجه لنظرية المجال العام بوصفها متمركزة إثنياً أو مبنية على قراءة خاصة للعقلانية وليدة حركة الأنوار، إلا أنها تبقى الإطار الأمتن لتفسير الدور الذي يؤديه المجتمع المدني في التغيير الاجتماعي فهي تتطلب العودة إلى السياسة، عودة المواطن النشيط للمساعدة في تشكيل وصياغة أهداف المجتمع الصالح، فالمواطن هو الذي ينبغي أن يستغل سياسة الدولة وليس العكس، كما تنبغي مواجهة تسليع المجال العام من طرف الدولة الذي يمنع المواطنين من تشكيل سياسة الدولة.
وبالنسبة للمؤلف فإن "المجتمع المدني يكتسب قوّة بوصفه فكرة ووسيلة للتغير الاجتماعي عندما تغطي نقاط القوة وإسهامات مجموعة من النظريات على نقاط الضعف في مجموعة من النظريات الأخرى".
(كاتب موريتاني)
اقرأ أيضا
المجتمع المدني العربي.. تحديات المرحلة
يحاول إدواردز إمساك هذه "الفكرة العظيمة" من خلال تقديم طغمة من التعريفات التي لم تزد الأمر إلا إشكالاً فرغم تعدد تلك التعاريف إلا أنها لم تعكس إلا وجهة نظر أصحابها الفكري أو المؤسساتي، فكلها تعريفات تُظهر مدى توظيف هذه الجهات فكرة المجتمع المدني لخدمة أغراضها الشخصية وتقديم رؤاها الخاصة لحل معضلات اجتماعية وسياسية.
على كل يمكن تصنيف أولئك الذين يدّعون امتلاك ناصية هذه الفكرة إلى ثلاث جهات، إحداها تقول بكون المجتمع المدني منتجا من منتجات الدولة القومية والرأسمالية، وأخرى، تعبّر عن كونه تعبيراً عالميّاً عن الحياة الجماعية للأفراد العاملين والناشطين في جميع البلدان، ثم أخيراً تلك التي ترى بضرورة أن يكون المجتمع المدني ثالث القطاعات بعد الدولة والسوق منفصلاً عن الأخيرين ومستقلاً. ورغم كل ذلك الاختلاف والهلامية التي تحيط به فإن كتاب إدواردز ليس كتاباً نظرياً ولا تاريخياً نقديا لمفهوم المجتمع المدني، فحتى تتبع تلك الأدبيات التاريخانية لن ينتج لنا إجماعاً واضحاً حول هذه الفكرة، لذا يكتفي المؤلف برصد ثلاث مدارس فكرية نتجت عن هذا التباين في التاريخ الفكري للمفهوم.
فهناك مدرسة تنظر للمجتمع المدني بوصفه جزءاً من المجتمع، وهي مدرسة توكفيل الجديدة وهي الأكثر انتشاراً والأكثر استفادة من التغيرات السياسية والأيديولوجية فهي ترتكز بالأساس على الحياة الترابطية وتقوم على وجود نزعة إنسانية للمشاركة في نشاطات جماعية، وهذه الروح الرومانسية هي التي بثها توكفيل خلال رحلاته إلى الولايات المتحدة واصفاً الأميركيين بأن "لديهم نزعة قوية لتشكيل روابط وجمعيات" وتمتد هذه النظرة من المنظرين الاجتماعيين إلى السياسيين؛ فالمحافظون يجدون في الحياة الترابطية إمكانية لإعادة الاعتبار للقيم التقليدية الأخلاقية وعلى الطرف الآخر يرى التقدميون أنها وسيلة لإعادة خلق مجتمعات أخرى.
ثم هناك المدرسة التي ترى في المجتمع المدني مجتمعاً صالحاً، وتنظر هذه المدرسة للمجتمع بوصفه نوعا مجتمعياً يتميّز بمعايير تنظر لهذا المجتمع المدني بوصفه نظاما اجتماعيا مرغوباً، وبالرغم من الاختلاف حول هذا النظام إلا أن معايير مثل التسامح وعدم التمييز والتعاون والثقة ومحاربة الفقر وإحياء القيم الديمقراطية وغيرها تشكّل مشتركاً عاماً، فالمجتمع المدني هو نوع من "مأسسة السلوك المتمدّن" وهذه النظرة قديمة قدم كلمة التمدّن نفسها، من بداية وجود مجتمع المدينة لدى اليونان إلى العقائد الدينية وحتى لدى الفلاسفة أمثال كانط في رؤيته لمجتمع أخلاقي عولمي وغيره.
أما المدرسة الثالثة أي المجتمع المدنيّ متجسّداً في المجال العام الذي يجعل المجتمع المدني "الميدان للمحاجة والتداول وأيضاً للترابط والتعاون المؤسسي: فضاء عاماً غير تشريعي وخارجاً عن نطاق القضاء فيه يجري عرض قضايا الفوارق المجتمعية والمشكلات الاجتماعية، والسياسة العامة، وعمل الحكومة وأمور تتعلق بالمجتمع الأهلي والهوية الثقافية، والنقاش حولها". وهذا النقاش لا ينبغي أن يعرض فقط الأعلى صوتاً ويسكت وجهات النظر البديلة بالقمع والإقصاء بل ينبغي أن يكون نقاشاً مبنياً على قاعدة عريضة متمثلة في معرفة وتحديد المصلحة العامة، وبهذا نكوّن مادة صلبة للديمقراطية. ورغم كل النقد الموجه لنظرية المجال العام بوصفها متمركزة إثنياً أو مبنية على قراءة خاصة للعقلانية وليدة حركة الأنوار، إلا أنها تبقى الإطار الأمتن لتفسير الدور الذي يؤديه المجتمع المدني في التغيير الاجتماعي فهي تتطلب العودة إلى السياسة، عودة المواطن النشيط للمساعدة في تشكيل وصياغة أهداف المجتمع الصالح، فالمواطن هو الذي ينبغي أن يستغل سياسة الدولة وليس العكس، كما تنبغي مواجهة تسليع المجال العام من طرف الدولة الذي يمنع المواطنين من تشكيل سياسة الدولة.
وبالنسبة للمؤلف فإن "المجتمع المدني يكتسب قوّة بوصفه فكرة ووسيلة للتغير الاجتماعي عندما تغطي نقاط القوة وإسهامات مجموعة من النظريات على نقاط الضعف في مجموعة من النظريات الأخرى".
(كاتب موريتاني)
اقرأ أيضا
المجتمع المدني العربي.. تحديات المرحلة