01 نوفمبر 2024
هل الديمقراطية الغربية عَصِيَّةٌ على الاختراق الديكتاتوري؟
التصور السائد دولياً، خصوصاً غربياً، أن الديمقراطيات الراسخة غير قابلة للاختطاف والتَجْييرِ، ذلك أن الحكم فيها قائمٌ على مؤسساتٍ صلبةٍ وتوازناتٍ دقيقة، والأهم من ذلك أن شعوبها مُشَبَّعَةٌ بقيم الحرية، وبالتالي، فإنها لن تقبل بانبثاق ديكتاتورياتٍ عبر آليات ديمقراطية. قد يكون هذا التقويم العام صحيحاً إلى حد ما، غير أنه ليس صحيحاً بالمطلق، ففي التاريخ الحديث نماذج كثيرة، تثبت أنه يمكن لشخصٍ أو فئةٍ أن يختطفوا تجربة ديمقراطية راسخة، إن توفرت المعطيات الملائمة والظروف المناسبة، وبموافقة من شرائح مجتمعية واسعة.
جرت العادة أن يُحَالَ إلى التجربة الألمانية النازية في هذا السياق، فحزب العمال القومي الاشتراكي الألماني، المعروف أيضاً بـ"الحزب النازي"، نجح في الوصول إلى سدة الحكم عام 1933 بزعامة أدولف هتلر، عبر آلية انتخابية ديمقراطية. ولكن الحزب الذي كانت قد تصاعدت أسهمه الجماهيرية، حينئذ، لم يكن إلا إفرازاً لمراراتٍ شعبيةٍ ومعضلاتٍ بنيويةٍ، كانت ألمانيا تعيشها. فأولاً، كانت هناك الهزيمة المذلة لألمانيا في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، والتي أَطَّرَتْها معاهدة فرساي عام 1919، فارضةً شروطاً مهينة ومجحفة عليها. ثم كان هناك الاضطراب السياسي، وعدم الاستقرار في بنية الحكم. وترافق ذلك مع الكساد الاقتصادي العظيم الذي ضرب أجزاء كثيرة من العالم، بما في ذلك الغربي منه، في أواخر العشرينيات، وكانت ألمانيا من الدول التي طاولتها تبعاته. كما أن هتلر عرف كيف يتلاعب بمشاعر الألمان القومية، زاعماً تفوّق العرق الآري. والنتيجة، كما سجلها التاريخ، أن هتلر أقام نظاماً استبدادياً مطلقاً، وساهم، مع قوى غربية وآسيوية استعمارية أخرى، في جَرِّ العالم إلى حربٍ عالميةٍ ثانية، راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر، انتهت بانتصار "قوات الحلفاء" على "دول المحور" التي كانت تضم ألمانيا، واحتلال هذه الأخيرة وانتحار هتلر عام 1945.
هنا، قد يقول قائل إن ذلك كان في الثلث الأول من القرن الماضي، وإن الدول الغربية الديمقراطية تعلمت من التجربة النازية، وَعَزَّزَتْ آليات الضبط والتوازن في مؤسساتها، لمنع تكرار ذلك السيناريو. ولكن، هل هذا صحيح؟
من ناحية مبدئية، يمكن الجزم أن الديمقراطيات الغربية قد عزّزت من متانتها وَمَنَعَتِها، غير أن
ذلك لا يعني أبداً أنها عَصِيَّةٌ على محاولات الاختراق والخرق، إن توفرت المعطيات والأجواء الملائمة. خذ على سبيل المثال التجربة الأميركية، والتي تُقَدِّمُ نفسها الأنموذج الأرقى للديمقراطية: "منارة الحرية" في العالم. يقوم النظام السياسي الأميركي على قاعدة "الضوابط والتوازنات" بين أفرع السلطة الثلاثة، التشريعية والتنفيذية والقضائية. بمعنى أن كل سلطة من السلطات الثلاث تملك من الأدوات ما يُمَكِّنُها من الحد من جموح أي من السلطتين الأخريين. أيضاً، لا يكتسب النظام السياسي الأميركي شرعية إلا عبر انتخاباتٍ المفترض أنها حرة. هذا هو الإطار العام، ولكن في التفاصيل ثمّة صورة قد تبدو مغايرة إلى حد ما.
صحيحٌ أن ثمّة انتخابات حرة في الولايات المتحدة، لكنها ليست بالضرورة نزيهةً جرّاء سطوة المال والإعلام عليها. فالمواطن الأميركي يدلي بصوته بحرية، وصوته يُعْتَدُّ به، لكن هذا لا يعني أن صوته لا يخضع لتأثيراتٍ خارجيةٍ تتلاعب به في أحيانٍ كثيرة. كثير من المواطنين يكونون ضحايا أجندة رؤوس الأموال والإعلام، ويكفينا هنا التذكير أن الحملات الرئاسية للحزبين، الجمهوري والديمقراطي، تتجاوز تكلفتها الآن أكثر من مليار دولار لكل حزبٍ على حدة. الأخطر أن الولايات المتحدة، كما ألمانيا من قبل، أبانت عن بعض هشاشةٍ قِيمِيَّةٍ ومؤسساتية أمام التحديات، ما يجعلها عرضةً للاختطاف. فمثلاً، بعد هجمات "11سبتمبر" في 2001، تغولت السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية باسم الأمن. نجحت إدارة جورج دبليو بوش حينها في توظيف خوف المواطن الأميركي من الإرهاب، للحد من الحريات الدستورية، والتعدّي على الحريات المدنية، وَأَسَّسَتْ لدولةٍ بوليسية بامتياز. ولم يلبث أن تمكّن جمهوري آخر، هو دونالد ترامب، من اللعب على وتر العنصرية والحساسيات العرقية لدى الأغلبية البيضاء الأميركية (تتراجع عدداً ونسبة)، والتي ترتّبت على نجاح الديمقراطي الأسود، باراك أوباما، في دورتين انتخابيتين رئاسيتين، (2009-2017)، فكان ذلك أحد الأسباب الرئيسة لوصوله إلى سدة الحكم.
اليوم، يحكم ترامب، والذي لا يخفي هيامه بـ"الزعماء الأقوياء"، كالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.. يحكم في خضم جو فضائحي، داخلياً وخارجياً، بشكلٍ لم تعتده الولايات المتحدة من قبل، وها هو يَكْسِرُ كل ما كان يظن أنها محرّمات سياسية أميركية، مثل التماهي بين مصالحه التجارية الخاصة ورئاسته، وإعلانه الحرب على حرية الإعلام واستقلاليته. ومع ذلك، تعجز المؤسسات عن كبح جموح الرجل، على الرغم من أنها تحد منه كثيراً، وما زالت تصارع في محاولة لجمه. الأخطر أن تخضع ملفاتٌ كثيرة في السياسة الخارجية، ومصالح أميركا الحيوية عالمياً، إلى الحسابات والمصالح التجارية لترامب وعائلته. من ذلك ما كشفه الصحافي
الاستقصائي الأميركي، مارك بيري، في تقرير له في "ذه أميركان كونسيرفاتيف"، عن غضب وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين، من تهديد ترامب مصالح الولايات المتحدة في الخليج العربي عبر وقوفه إلى جانب دول الحصار ضد قطر. وكما يكشف بيري، يعتقد وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، جازماً، أن انحياز ترامب لصالح دول الحصار، على عكس موقف المؤسسات الأميركية المعنية، إنما يأتي لعلاقة السفير الإماراتي، يوسف العتيبة، بصهر ترامب ومستشاره، جاريد كوشنر، والذي يؤثر على قرارات ترامب في "الجناح العائلي" من البيت الأبيض. بل إن تيلرسون، حسب مقربين منه، يصر على أن العتيبة هو من كتب، عبر كوشنر، الفقرات التي جاءت في خطاب ترامب، واتهم فيها قطر بـ"دعم الإرهاب"، مناقضاً بذلك خطاب تيلرسون نفسه في اليوم نفسه (9/6) الداعي إلى حل الأزمة سلمياً، ورفع الحصار عن قطر. ولا شك، كما تكشف تقارير أخرى، أن ثمّة علاقات تجارية لا تنكر بين عائلة ترامب وكل من السعودية والإمارات، تفسر تواطؤ ترامب ومستشاريه الأقرب مع دول الحصار.
باختصار، مؤكّد أن الدول الغربية طوّرت مؤسساتٍ قوية، وراكمت خبراتٍ ديمقراطية عريقة، كما أن الإعلام الغربي يتمتع بدرجة عالية من الاحترافية والحرية، في حين أن الشعوب الغربية حسّاسة نحو أي ميولٍ سلطوية لأي شخص أو حزب، غير أن ذلك لا يعني أن التجربة الغربية حصينة منيعة على الاختراق والتوظيف.
تُرى، هل نسينا كيف تمكّن الثنائي، الأميركي، بوش الابن، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، من إجبار الأجهزة الاستخباراتية في بلديهما على تلفيق مزاعم عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، أدت إلى غزو البلد عام 2003 وتدميره وإدخال المنطقة كلها في أتون فوضى عارمة؟ أم هل، يا ترى، نسينا كيف تحوَّل الإعلامان، الأميركي والبريطاني، حينها، إلا قليلاً منه، إلى أبواق حربٍ وطبول لها؟ حدث ذلك كله في ظل تأييد شعبي عارم للغزو، وتحديداً في الولايات المتحدة، وذلك قبل أن يصحو الجميع على الفاجعة، ولكن لاتَ حين مناص. لذلك، لا تعجبوا إن جنحت أيٌّ من الدول الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة، نحو صيغةٍ فاقعة اللون من الاستبداد المطلق، فإن أَماراتِهِ قد بدت، ومنذ سنين طويلة.
جرت العادة أن يُحَالَ إلى التجربة الألمانية النازية في هذا السياق، فحزب العمال القومي الاشتراكي الألماني، المعروف أيضاً بـ"الحزب النازي"، نجح في الوصول إلى سدة الحكم عام 1933 بزعامة أدولف هتلر، عبر آلية انتخابية ديمقراطية. ولكن الحزب الذي كانت قد تصاعدت أسهمه الجماهيرية، حينئذ، لم يكن إلا إفرازاً لمراراتٍ شعبيةٍ ومعضلاتٍ بنيويةٍ، كانت ألمانيا تعيشها. فأولاً، كانت هناك الهزيمة المذلة لألمانيا في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، والتي أَطَّرَتْها معاهدة فرساي عام 1919، فارضةً شروطاً مهينة ومجحفة عليها. ثم كان هناك الاضطراب السياسي، وعدم الاستقرار في بنية الحكم. وترافق ذلك مع الكساد الاقتصادي العظيم الذي ضرب أجزاء كثيرة من العالم، بما في ذلك الغربي منه، في أواخر العشرينيات، وكانت ألمانيا من الدول التي طاولتها تبعاته. كما أن هتلر عرف كيف يتلاعب بمشاعر الألمان القومية، زاعماً تفوّق العرق الآري. والنتيجة، كما سجلها التاريخ، أن هتلر أقام نظاماً استبدادياً مطلقاً، وساهم، مع قوى غربية وآسيوية استعمارية أخرى، في جَرِّ العالم إلى حربٍ عالميةٍ ثانية، راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر، انتهت بانتصار "قوات الحلفاء" على "دول المحور" التي كانت تضم ألمانيا، واحتلال هذه الأخيرة وانتحار هتلر عام 1945.
هنا، قد يقول قائل إن ذلك كان في الثلث الأول من القرن الماضي، وإن الدول الغربية الديمقراطية تعلمت من التجربة النازية، وَعَزَّزَتْ آليات الضبط والتوازن في مؤسساتها، لمنع تكرار ذلك السيناريو. ولكن، هل هذا صحيح؟
من ناحية مبدئية، يمكن الجزم أن الديمقراطيات الغربية قد عزّزت من متانتها وَمَنَعَتِها، غير أن
صحيحٌ أن ثمّة انتخابات حرة في الولايات المتحدة، لكنها ليست بالضرورة نزيهةً جرّاء سطوة المال والإعلام عليها. فالمواطن الأميركي يدلي بصوته بحرية، وصوته يُعْتَدُّ به، لكن هذا لا يعني أن صوته لا يخضع لتأثيراتٍ خارجيةٍ تتلاعب به في أحيانٍ كثيرة. كثير من المواطنين يكونون ضحايا أجندة رؤوس الأموال والإعلام، ويكفينا هنا التذكير أن الحملات الرئاسية للحزبين، الجمهوري والديمقراطي، تتجاوز تكلفتها الآن أكثر من مليار دولار لكل حزبٍ على حدة. الأخطر أن الولايات المتحدة، كما ألمانيا من قبل، أبانت عن بعض هشاشةٍ قِيمِيَّةٍ ومؤسساتية أمام التحديات، ما يجعلها عرضةً للاختطاف. فمثلاً، بعد هجمات "11سبتمبر" في 2001، تغولت السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية باسم الأمن. نجحت إدارة جورج دبليو بوش حينها في توظيف خوف المواطن الأميركي من الإرهاب، للحد من الحريات الدستورية، والتعدّي على الحريات المدنية، وَأَسَّسَتْ لدولةٍ بوليسية بامتياز. ولم يلبث أن تمكّن جمهوري آخر، هو دونالد ترامب، من اللعب على وتر العنصرية والحساسيات العرقية لدى الأغلبية البيضاء الأميركية (تتراجع عدداً ونسبة)، والتي ترتّبت على نجاح الديمقراطي الأسود، باراك أوباما، في دورتين انتخابيتين رئاسيتين، (2009-2017)، فكان ذلك أحد الأسباب الرئيسة لوصوله إلى سدة الحكم.
اليوم، يحكم ترامب، والذي لا يخفي هيامه بـ"الزعماء الأقوياء"، كالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.. يحكم في خضم جو فضائحي، داخلياً وخارجياً، بشكلٍ لم تعتده الولايات المتحدة من قبل، وها هو يَكْسِرُ كل ما كان يظن أنها محرّمات سياسية أميركية، مثل التماهي بين مصالحه التجارية الخاصة ورئاسته، وإعلانه الحرب على حرية الإعلام واستقلاليته. ومع ذلك، تعجز المؤسسات عن كبح جموح الرجل، على الرغم من أنها تحد منه كثيراً، وما زالت تصارع في محاولة لجمه. الأخطر أن تخضع ملفاتٌ كثيرة في السياسة الخارجية، ومصالح أميركا الحيوية عالمياً، إلى الحسابات والمصالح التجارية لترامب وعائلته. من ذلك ما كشفه الصحافي
باختصار، مؤكّد أن الدول الغربية طوّرت مؤسساتٍ قوية، وراكمت خبراتٍ ديمقراطية عريقة، كما أن الإعلام الغربي يتمتع بدرجة عالية من الاحترافية والحرية، في حين أن الشعوب الغربية حسّاسة نحو أي ميولٍ سلطوية لأي شخص أو حزب، غير أن ذلك لا يعني أن التجربة الغربية حصينة منيعة على الاختراق والتوظيف.
تُرى، هل نسينا كيف تمكّن الثنائي، الأميركي، بوش الابن، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، من إجبار الأجهزة الاستخباراتية في بلديهما على تلفيق مزاعم عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، أدت إلى غزو البلد عام 2003 وتدميره وإدخال المنطقة كلها في أتون فوضى عارمة؟ أم هل، يا ترى، نسينا كيف تحوَّل الإعلامان، الأميركي والبريطاني، حينها، إلا قليلاً منه، إلى أبواق حربٍ وطبول لها؟ حدث ذلك كله في ظل تأييد شعبي عارم للغزو، وتحديداً في الولايات المتحدة، وذلك قبل أن يصحو الجميع على الفاجعة، ولكن لاتَ حين مناص. لذلك، لا تعجبوا إن جنحت أيٌّ من الدول الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة، نحو صيغةٍ فاقعة اللون من الاستبداد المطلق، فإن أَماراتِهِ قد بدت، ومنذ سنين طويلة.