15 نوفمبر 2024
هل استنفدت "فتح" مبرّرات وجودها؟
ما بين البلاغ العسكري الأول لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، مطلع عام 1965، ومشاركة رئيس السلطة الفلسطينية، وزعيم الحركة، محمود عباس (أبو مازن)، في تشييع جنازة الرئيس الإسرائيلي الأسبق ومجرم الحرب، شمعون بيريز، مدة زمنية واسعة، تزيد عن نصف قرن، تبرز حجم التحولات العميقة والكبيرة التي مَرَّت بها حركة فتح، منذ نشأتها أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. ففي بيان "قوات العاصفة"، في الأول من يناير/ كانون الثاني 1965، أعلنت "فتح" أن هدفها تحرير فلسطين على أساس "حق شعبنا في الكفاح لاسترداد وطنه المغتصب"، والإيمان "بواجب الجهاد المقدس". في حين جاءت برقية التعزية التي بعث بها عباس، الأسبوع الماضي، لعائلة بيريز نقيضاً لتلك اللغة، إذ أعرب عن حزنه وأسفه لوفاته، واصفًا إياه بشريك في صنع "سلام الشجعان" مع الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، الراحل إسحاق رابين. وجاء في برقية التعزية أن بيريز "بذل جهودًا حثيثة للوصول إلى سلام دائم منذ اتفاق أوسلو، وحتى آخر لحظة في حياته".
لا أظن أننا بحاجة إلى التفصيل في سجل بيريز الإجرامي بحق الفلسطينيين والعرب، وتكفي الإشارة إلى أنه أحد رواد رعاة الاستيطان الصهيوني الأوائل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، منذ كان وزيرا للدفاع في سبعينيات القرن الماضي، كما أنه مسؤول مباشر، أو بالاشتراك، عن مجازر عدة، منذ عضويته في مليشيات "الهاغاناه" الصهيونية، قبل تشكل جيش الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، مروراً بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وقمع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993)، ثم دوره المباشر في مجزرة قانا في لبنان عام 1996... إلخ. أما مهزلة صنع "سلام الشجعان" التي يُنْعِمُ بها عباس على الرجل فهي كذبة كبرى، نرى شواهدها اليوم، بعد أكثر من عقدين على توقيع اتفاقية الشؤم (أوسلو)، حيث لا تزال "الدولة الفلسطينية" وهماً، وَسُفِكَ من الدماء الفلسطينية أكثر مما سفك قبل توقيعها، كما قُضِمَ من الأرض الفلسطينية، لأغراض الاستيطان، أضعاف النسبة التي كانت قائمة قبلها. أما السلطة الفلسطينية، فهي، نعم، قامت منذ عام 1994، ولكن بناء على حساباتٍ إسرائيليةٍ، أساسها أداء دورين وظيفيين، بلدي لتحمل كلفة السكان الفلسطينيين، وأمني، كجهاز قمع إسرائيلي بأيدٍ فلسطينية.
ما بين 1965-2016، مرت "فتح" بمراحل كثيرة، حولتها تدريجيا من حركة مقاومة تهدف إلى تحرير فلسطين، كل فلسطين، إلى مجرد حزب سلطة وكيلة للمحتل الذي تشكلت "فتح" لمقاومته أصلا. وإذا كان زعيم حركة فتح التاريخي، ياسر عرفات (أبو عمار)، قد سعى
مراراً إلى المزاوجة بين المفاوضات السلمية والعمل العسكري، فإن أبو مازن، أعلن، منذ اليوم الأول لتسلمه رئاسة الحركة والسلطة، أواخر عام 2004 ومطلع عام 2005، عداوته لأيٍ شكل من المقاومة المسلحة، حاصرا دور السلطة وحركة فتح في المفاوضات السلمية، أو لنكن أدق، في استجداء إسرائيل. ولذلك، فإنه تحت عباس سلم الجناح العسكري للحركة الذي كان معروفا باسم "كتائب شهداء الأقصى" خلال انتفاضة الأقصى (2000-2005)، سلاحه عام 2007، ليتحوّل معظم ثوار الأمس إلى موظفي أمن، أو بلطجية يُسْتَدْعَونَ عند الحاجة، أو معتاشين على رواتب ترضية في ظل "عفو" إسرائيلي. أما من أصرّ على طريق الكفاح المسلح منهم، فقد انتهى به الأمر شهيدا، أو سجينا. ولعله من المفيد التساؤل هنا أين انتهى التحقيق في ملف اغتيال عرفات الذي وعدتنا حركة فتح غير مرة بتقديم نتائجه؟
كان اختيار عباس نفسه رئاسة الحركة إشارة ساطعة أن فتح "الرصاصة الأولى" ليست هي فتح ما بعد "أوسلو"، مع التحفظ هنا على زعم "الرصاصة الأولى"، إذ أطلق الشعب الفلسطيني كفاحا مسلحا قبل بيان "فتح" العسكري الأول بثلاثة عقود على الأقل. وهذا لا ينفي دور "فتح" التاريخي في المقاومة والكفاح وحفظ الهوية والقضية الفلسطينيتين، لكن صيرورة الكفاح الفلسطيني لا ينبغي أن تحصر تعسفاً في "فتح" انطلاقاً وانتهاءً. المهم، أن تولي عباس شؤون حركة عريقة أظهر حجم العقم الذي تعانيه، فجيل الكبار والآباء المؤسسين، كأبي عمار، وخليل الوزير (أبو جهاد)، وصلاح خلف (أبو إياد)، وكمال عدوان، ويوسف النجار.. إلخ، غُيِّبَ قسراً من المشهد بفعل إسرائيلي محسوب، وذلك تماما كما غيب قادة جيل آخر، يسير على بعض آثارهم، مثل مروان البرغوثي الذي يقبع اليوم في السجون الإسرائيلية منذ قرابة عقد ونصف العقد. وهكذا، لم يبق في الصورة إلا نظراء عباس، اللهم إلا بعض قلة اختارت الانزواء، أو أنها لم تملك كاريزما القيادة والنضال. وكما يقول أمين سر حركة فتح، سابقا، وأحد قياداتها التاريخيين الذين تمَّ تهميشهم، فاروق القدومي، إن أبو مازن لم تتغبر ملابسه يوما في أيٍّ من خنادق المقاومة.
تعيش القضية الفلسطينية، اليوم، مأزقاً تاريخياً بفعل قيادة حركة فتح ما تبقى من حطام "المشروع الوطني الفلسطيني" الذي تُسأل هي أولا عن تدميره. ففي ظل استفرادها بالقرار الفلسطيني، انتقلت أزمة الحركة إلى "المشروع الوطني" برمته. فقضية فلسطين أصبحت اليوم رهينة مناكفات حركة فتح الداخلية، وتنافس جناحي عباس ومحمد دحلان على إرضاء إسرائيل والولايات المتحدة ومحور "الاعتدال العربي" الساعي إلى التخلص من هَمٍّ اسمه فلسطين. ولأن الحركة تعاني من توهان بوصلتها، فإن قضية فلسطين تعاني، هي الأخرى، من توهان البوصلة.
لمن أراد أن يفهم أين انتهى الحال بحركة فتح، اليوم، فليقرأ بيانها الصحافي الذي أصدرته قبل
أيام بعنوان: "فتح: سنوقف المؤامرة وسنلجم الأصوات الرخيصة"، وفيه تتوّعد من انتقد مشاركة عباس في جنازة بيريز. ففي حين غابت بيانات "فتح" التي تهدّد الاحتلال على جرائمه، كما عكس ذلك بيانها العسكري الأول عام 1965، فإن بيانها، محل الإشارة هنا، حافظ على لغة التهديد، ولكن ضد "الآخر الفلسطيني"، حيث جاء فيه: إن فتح "ستضرب بيدٍ من حديد، وبلا هوادة، كل من يُفكر بالمساس بحركة فتح وقادتها، ولن تتهاون تجاه مثيري الفتن والجبناء، وخاصة لمن يعرف حجمه جيداً أمام حجم ومسؤولية حركة فتح". وفعلاً، فإن عناصر فتح، مدعومين بأجهزة أمن السلطة، لم يوفروا معارضي مشاركة عباس في جنازة بيريز من اعتداءاتهم في الضفة الغربية.
للأسف، هذه هي "فتح" اليوم، حزب سلطة تقوم وكيلا عن الاحتلال في إخضاع الشعب الفلسطيني، وتمييع حقوقه وتضييعها، ما يطرح سؤالاً جدياً ما إذا كانت فتح قد استنفدت الهدف التاريخي الذي أنشئت من أجله، وهو تحرير فلسطين، أو على الأقل الكفاح في سبيل ذلك؟
رجاؤنا أن تنهض "فتح" من كبوتها، وأن تنفض غبار العجز والعاجزين عنها، لتتبوأ من جديد مكانها الأصيل في صيرورة تحرير الوطن المحتل.
لا أظن أننا بحاجة إلى التفصيل في سجل بيريز الإجرامي بحق الفلسطينيين والعرب، وتكفي الإشارة إلى أنه أحد رواد رعاة الاستيطان الصهيوني الأوائل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، منذ كان وزيرا للدفاع في سبعينيات القرن الماضي، كما أنه مسؤول مباشر، أو بالاشتراك، عن مجازر عدة، منذ عضويته في مليشيات "الهاغاناه" الصهيونية، قبل تشكل جيش الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، مروراً بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وقمع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993)، ثم دوره المباشر في مجزرة قانا في لبنان عام 1996... إلخ. أما مهزلة صنع "سلام الشجعان" التي يُنْعِمُ بها عباس على الرجل فهي كذبة كبرى، نرى شواهدها اليوم، بعد أكثر من عقدين على توقيع اتفاقية الشؤم (أوسلو)، حيث لا تزال "الدولة الفلسطينية" وهماً، وَسُفِكَ من الدماء الفلسطينية أكثر مما سفك قبل توقيعها، كما قُضِمَ من الأرض الفلسطينية، لأغراض الاستيطان، أضعاف النسبة التي كانت قائمة قبلها. أما السلطة الفلسطينية، فهي، نعم، قامت منذ عام 1994، ولكن بناء على حساباتٍ إسرائيليةٍ، أساسها أداء دورين وظيفيين، بلدي لتحمل كلفة السكان الفلسطينيين، وأمني، كجهاز قمع إسرائيلي بأيدٍ فلسطينية.
ما بين 1965-2016، مرت "فتح" بمراحل كثيرة، حولتها تدريجيا من حركة مقاومة تهدف إلى تحرير فلسطين، كل فلسطين، إلى مجرد حزب سلطة وكيلة للمحتل الذي تشكلت "فتح" لمقاومته أصلا. وإذا كان زعيم حركة فتح التاريخي، ياسر عرفات (أبو عمار)، قد سعى
كان اختيار عباس نفسه رئاسة الحركة إشارة ساطعة أن فتح "الرصاصة الأولى" ليست هي فتح ما بعد "أوسلو"، مع التحفظ هنا على زعم "الرصاصة الأولى"، إذ أطلق الشعب الفلسطيني كفاحا مسلحا قبل بيان "فتح" العسكري الأول بثلاثة عقود على الأقل. وهذا لا ينفي دور "فتح" التاريخي في المقاومة والكفاح وحفظ الهوية والقضية الفلسطينيتين، لكن صيرورة الكفاح الفلسطيني لا ينبغي أن تحصر تعسفاً في "فتح" انطلاقاً وانتهاءً. المهم، أن تولي عباس شؤون حركة عريقة أظهر حجم العقم الذي تعانيه، فجيل الكبار والآباء المؤسسين، كأبي عمار، وخليل الوزير (أبو جهاد)، وصلاح خلف (أبو إياد)، وكمال عدوان، ويوسف النجار.. إلخ، غُيِّبَ قسراً من المشهد بفعل إسرائيلي محسوب، وذلك تماما كما غيب قادة جيل آخر، يسير على بعض آثارهم، مثل مروان البرغوثي الذي يقبع اليوم في السجون الإسرائيلية منذ قرابة عقد ونصف العقد. وهكذا، لم يبق في الصورة إلا نظراء عباس، اللهم إلا بعض قلة اختارت الانزواء، أو أنها لم تملك كاريزما القيادة والنضال. وكما يقول أمين سر حركة فتح، سابقا، وأحد قياداتها التاريخيين الذين تمَّ تهميشهم، فاروق القدومي، إن أبو مازن لم تتغبر ملابسه يوما في أيٍّ من خنادق المقاومة.
تعيش القضية الفلسطينية، اليوم، مأزقاً تاريخياً بفعل قيادة حركة فتح ما تبقى من حطام "المشروع الوطني الفلسطيني" الذي تُسأل هي أولا عن تدميره. ففي ظل استفرادها بالقرار الفلسطيني، انتقلت أزمة الحركة إلى "المشروع الوطني" برمته. فقضية فلسطين أصبحت اليوم رهينة مناكفات حركة فتح الداخلية، وتنافس جناحي عباس ومحمد دحلان على إرضاء إسرائيل والولايات المتحدة ومحور "الاعتدال العربي" الساعي إلى التخلص من هَمٍّ اسمه فلسطين. ولأن الحركة تعاني من توهان بوصلتها، فإن قضية فلسطين تعاني، هي الأخرى، من توهان البوصلة.
لمن أراد أن يفهم أين انتهى الحال بحركة فتح، اليوم، فليقرأ بيانها الصحافي الذي أصدرته قبل
للأسف، هذه هي "فتح" اليوم، حزب سلطة تقوم وكيلا عن الاحتلال في إخضاع الشعب الفلسطيني، وتمييع حقوقه وتضييعها، ما يطرح سؤالاً جدياً ما إذا كانت فتح قد استنفدت الهدف التاريخي الذي أنشئت من أجله، وهو تحرير فلسطين، أو على الأقل الكفاح في سبيل ذلك؟
رجاؤنا أن تنهض "فتح" من كبوتها، وأن تنفض غبار العجز والعاجزين عنها، لتتبوأ من جديد مكانها الأصيل في صيرورة تحرير الوطن المحتل.