هكذا تنمو حديقة الموتى

24 مارس 2015
نورس شلهوب / فلسطين
+ الخط -

صبياً كنتُ
حين مررتُ بتجربتي الأولى مع الموتِ
إذ ضربتْ كلبتي "أميرة"
سيارةٌ
فاعتقدتُ أنني عرفتُ الأسى آنذاك
ولكن
تلك لم تكن سوى قطرة مطرْ
على سطح جسدي الساكن

وحين طُعن ابن عمي سمير حتى الموتِ
في شوارع ليفربول
كنتُ لا أزال أتتبع الأصداء الشاردة لتلك القطرة
فاعتقدتُ، وقد أصابني غياب جسدٍ ملموسٍ
اعتدتُ على معرفته، بالدوار،
أن الأسى قد جاء أخيراً
ولكنني لم أمتلك مفهوماً حقيقياً للألم

في سن الثالثة والعشرين، التقيتُ بابن خالي جمال نظوم كودات،
وقد ولد قبل أوانه، على نقالةٍ
في مشرحة ملاصقة لمسجد ليكمبا
وأتذكرُ أنني فكّرتُ، كيف كانت تلك الترتيبات
مناسبة، وكم أن النقلة بين الحياة والموتِ،
والطرقُ الملموسة بين الصلاة والفقدان،
مختصرة.

لم يكن الرضيع الصغير أزرقَ،
مثلما قادتني الكثير من الكتب والقصائد والأغاني
إلى الاعتقاد،
بل كان شاحب البياض كالثلج
والكلُّ واقفٌ حوله في دائرة
من رجالٍ ملتحين في مواجهة المطلق
أبٌ مع ابنهِ، ابنُ عم
مع ابن عمّهِ، حياةٌ مع أصدائها.

أقيمت جنازته ذات جمعة صباحاً
وتوهجت الشمسُ مثل بهجةٍ تتجسد
بينما كان يجري حفر ثقب صغير فاغر
في قبر جدّهِ

وقالوا، هذا كي تحميه روحُ جدّه
أو كي تطهر براءةُ الطفل
سلفه، ونسيتُ أي واحد منهما،
ربما كلاهما، ويلتقي الماضي والمستقبل
في التراب، كما حسبتُ دائماً أن لا بد من هذا

في ذلك اليوم تأكدتُ أن هذه لم تعد قطراتٍ
ولكنها في أفضل الأحوال رذاذٌ خفيف، دقٌّ
مثل دقّ مئات القبضات الصغيرة على صدري.

في صباح اليوم التالي بالذات، توفيت جدّتي
أخيراً، بعد مرض طويل، وبعد أن شخّص الأطباءُ موتها
قبل شهور، كما لو أنها كانت تنتظر
أن يضيء حفيدها الطريقَ،
أو أن تهرع وراءه
لتأخذ بيده، وتقوده إلى المرحلة التالية.

لم يعد عليّ التساؤل عن موعد وصول الأسى
يبدو الآن كما لو أنه
كان هنا طيلة الوقت، ولن نخلص منه أبداً،
ما أن نجده، مرة أخرى.
كانت العاصفة فوقي، وأشجار سنديان هائلة
وشجيراتٌ تتناثر في رياح بلا تفكير
الأفقُ والسماء لا انفصال بينهما في المطرْ

وفهمتُ الآن حقيقة الألم
أو على الأقل شعورَ أن تُنقع
حتى العظم. وحتى حين حدث العصفُ
لم أكن خالياً من الأسى، إنه ينمو في الداخل
ما أن يجد فراغاً خصباً قائماً
سلفاً. إنني أعتني به مثل أمٍّ
تعتني بطفل، وأعرفُ
وأحبُّ محيط جسدي الجديد
كيف لا يمكنني، حين يحمل هيئة
عائلة؟

وهكذا، تنمو حديقة الموتى
في قفصي الصدري، ويعيش المغادرون
مجدّداً كجزءٍ من جسدي
أحياناً، أسمعُ في هدوء الأحاديث
أصواتهم تغني مترددةً
تحت جلدي، وأفكرُ، لو أن الكلّ
توقف ليصغي، فسيسمع مرة أخرى
صوت الأحباب المألوف

وعبر كل عوالم الحقول والغابات
سترنّ الحياة متناغمة مع الموتى.

 

* Omar J. Sakr شاعر أسترالي من أصل عربي وعنوان القصيدة الأصلي: Harmony of Dirt

** ترجمة عن الإنجليزية: محمد الأسعد

 

المساهمون