العالم في الخارج خالٍ هذه الأيام، الحروب تعطّلت أو تأجلت، والأصحاب صاروا مؤجلين. أما الساعات التي كانت تُهدَر بالتفكير والتأمل، فقد أصبحت أشدّ فتكاً في غرفة يقطنها شخصٌ واحد، بعدما أشرعت ساعات التأمل في ذاكرتهِ غرفاً كثيرة غادر ساكنوها. إذاً هذا هو الوقت الأمثل للالتفات إلى القراءات المؤجلة.
لاعتبارات كثيرة نحن لا نؤجّل الكتابة الحارقة، لا نؤجل الحبّ اللجوج، ولا الرغبات المتحفّزة، سوى أنّ القراءة كائن هادئ جالس في زاوية مهملة، ينتظر أن نَفرغ من أجلهِ، إنّها فعل مؤجل. وعندما يفقد المرء الأفعال التي تُلحّ على أن تُلبّى فإنّه يركنُ إلى القراءة. بينما أفكر بالكائن الخجول في الظلمة، أدرك بأنّ هذا وقت الإلياذة.
تُرجمت الإلياذة إلى العربية ترجمات عديدة، أولاها ترجمة سليمان البستاني (دار الهلال، 1904) وقد تَرجمها نظماً بالاستعانة بلغات عدة على امتداد عشرين عاماً، وتعلّم من أجلها اليونانية. وقد أخذ طه حسين على البستاني ترجمتها شعرياً في المقدمة التي كتبها لترجمة عنبرة سلام الخالدي المختصرة للإلياذة والصادرة عن "دار العلم للملايين" في بيروت عام 1974.
وترجمها أمين سلامة لـ"دار الفكر العربي" (1956)، كذلك ترجمها دريني خشبة في نسخة حذف منها المقاطع التي لا تَدخل في الحبكة الأساسية للملحمة وبإضافات لأمثال عربية على الرغم من اعتماده على أربع نسخ من الترجمة الإنكليزية، وقد صدرت ترجمته عن "دار العودة" في 1985، كما توجد من هذه الترجمة نسخة أقدم عن دار الهلال (1969) وصدرت عن دور أخرى.
ومن ثمّ ترجمها الشاعر السوري ممدوح عدوان في محاولة لتجنّب عثرات الترجمات السابقة إلا أنّه ترجمها عن الإنكليزية أيضاً، وقد فعل ذلك بالاستناد إلى سبع نسخ إنكليزية، وصدرت ترجمته عن "المجمع الثقافي" (2002). فيما اقتصرت ترجمة عبد الرحمن حسن فالح (دار رياض الريّس، 2000) على ترجمة الكتاب السادس عشر من الإلياذة والذي يقص "مقتل باتروكلوس"، وهو الحدث الذي يُعيد أخيليوس إلى الحرب.
ولاحقاً صدرت نسخة مترجمة نثرياً عن الأصل اليوناني عن "المركز القومي للترجمة" في القاهرة عام 2004 وكانت ترجمة بإشراف مجموعة من المختصين، بتحرير وإشراف أحمد عثمان ومشاركة كلّ من عبد السلام البراوي، وعادل النحاس، ومنيرة كروان، ولطفي عبد الوهاب يحيى، وصدرت مع مئوية النسخة العربية الأولى. أخيراً صدرت نسخة من الإلياذة عن "الدار المصرية اللبنانية" في 2015، اعتمدت ترجمة دريني خشبة مع مراجعة وشرح كلّ من عبد العزيز نبوي وأحمد محمد زايد وأحمد محمد فؤاد.
الإلياذة - كما هو معروف - ملحمة شعرية لحرب وقعت بين إسبرطة وطروادة. وقد أعادت الملحمة بناء التاريخ الإغريقي، وتناقلتها الأجيال شفهياً، قبل أن يأمر طاغية أثينا بيزيستراتوس بجمعها في كتاب.
تبدأ الملحمة الشعرية حين يخطف الأمير الطروادي باريس هيلينه زوجة مينلاوس ملك إسبرطة، وتصل ذروتها في السنة العاشرة من حصار الإغريق لطروادة، وتتفرّع عن حكايات عدة، منها ما لحق أخيليوس من ضيم بعدما أخذ الملك أغاممنون سبيتهُ، ليتعهد زيوس لأمّه الإلهة بأن يُلحق المصائب بالإغريق بسبب سوء صنيعهم مع أخيليوس.
تشكل الحرب بفنونها، وبإحباطاتها وزهوها، موضوع الإلياذة باعتبار أنّ الحربَ حدث بشري بتدابير إلهية إماً دفعاً إليها أو سيطرةً عليها أو سعياً لإيقافها، ثمّ تنتهي، كما وصلت إلينا، بمقتل هيكتور واسترداد جُثّته.
تجمع الإلياذة البشر والآلهة في نظام شعري واحد، وإذا كان هناك اتفاق بأنّ مؤلفها هو هوميروس، فقد جرى الاختلاف على زمن وجودهِ؛ وثمة رواية تعيدها إلى مجموعة من المؤلفين. تتسم الإلياذة بأسلوب متدفق ولغة خطابية بليغة، إنّها نص ثري وانفعالي، يكتنز بالعاطفة وينطقُ بتصوّرات المنطق والحكمة. ظهرت آثار الإلياذة في إنتاج الملاحم التي تلتها، مثل الانيادة لفرجيليوس التي أعادت كتابة التاريخ الروماني. وقد دفع الهوس الشعري بالباحث الأثري الألماني هاينريش شليمان (1822- 1890) إلى الإيمان بوجود مدينة طروادة، والتي كنت قبل اكتشافها من قبل شليمان نفسه، في عام 1870، مجرّد أشعار...
هنا شذرات منها بترجماتها العربية المتنوعة التي أشرف عليها أحمد عثمان:
"يا ابن تيديوس يا ساميَ الروح، لِمَ تسأل عن نسبي؟ فأجيال البشر مثل أوراق الشجر. تعصف الرياح ببعض الأوراق وتُلقيها على الأرض، ولا تلبث الغابة أن تُزْهِر وتُنْبِتُ غيرَها بحلول مواسم الربيع. كذلك البشر، يزدهر جيل ويتوارى جيل آخر". من الكتاب السادس، ترجمة أحمد عثمان
■
"رجائي ألا تُسْرفي في الحزن داخل قلبك من أجلي، يا زوجتي الحبيبة. فلن يبعث بي أحد إلى هاديس إن لم يكن هذا هو قَدَري، ولا أحد يتملّص من قَدَره المحتوم، نبيلاً كان أم وضيعاً، هو قدر مرسوم للمرء منذ ولادته. عودي إلى بيتنا، واعتني بشؤونك من نَوْل ومغزل، ومُري وصيفاتك أن يقمن بواجباتهن، أما شؤون الحرب فللرجال، لكل الرجال، ومن شأني أنا قَبْل جميع من يقيمون في إليوس".
من الكتاب السادس، ترجمة أحمد عثمان
■
"ما من كلمة شُكر قُدِّمت لي، عندما كنت أحارب الأعداء دون هوادة. فمصير من يتكاسل ومن يحارب واحد، ويلقى الجبان والمِقدام التقدير نفسهُ، فالذي يكافح كثيراً، والذي لا يكافح مطلقاً يموتان الميتة نفسها، وما جنيت فائدة قط من الصّعاب التي تكابدها روحي، والتي تربط حياتي بالخطر وإشعال الحروب".
من الكتاب التاسع، ترجمة منيرة كروان
■
"أي زيوس الأب! يقولون إنّك تفوق الجميع حكمة، بشراً كانوا أم آلهة، ولكن كلّ هذه المصائب من لدنكَ أنت، فلقد آزرت مرتكبي العنف الطرواديين المفعمة قلوبهم بالفجور، ولا يشبعون من شرور الحرب اللعينة. فللمرء أن يأخذ كفايته من النوم والحب والأغاني العذبة والرقص الجميل، حقاً من الخير للمرء أن يشبع من هذه الأشياء لا من الحرب".
من الكتاب الثالث عشر، ترجمة أحمد عثمان
■
"أيتها الخيول التعسة، لماذا أعطيناكم إلى بيليوس الملك الفاني، بينما أنتم خيول إلهية لا تموت؟ أيكون ذلك مشاركةً للبشر التعساء في محنتهم؟ حيث لا يوجد، في تصوّري، من يستحق الشفقة بين الكائنات التي تتنفس على وجه الأرض وتتحرّك أكثر من الإنسان.
من الكتاب السابع عشر، ترجمة السيد عبد السلام البراوي
■
"لأنّ خيول الآخرين هي الأسرع؛ ولكن فرسانهم أنفسهم لا يفوقونك في المهارة، ولا يعرفون أكثر مما تعرف أنت، هيا إذن يا عزيزي، وفكر في كلّ أساليب حسن التصرّف. حتى لا تفلت كلّ هذه الجوائز من بين يديك. فبالفن والمهارة، لا بالقوة الجبّارة، يتفوّق قاطع الأخشاب. بالفن والمهارة يسيطر الربّان على السفينة المسرعة في بحر قاتم اللون كالنبيذ، بينما تتقاذفها الرياح".
من الكتاب الثالث والعشرون، ترجمة عادل النحاس
■
"لندع أحزاننا تهدأ داخل قلوبنا، على الرغم من الألم المرير. فلا طائل من ذلك البكاء المدمّر. هذا ما قدّرته الآلهة للبشر التعساء، بأن يعيشوا في ألم مرير، بينما هم أنفسهم بلا آلام. فعلى عتبات معبد زيوس توجد جرّتان كبيرتان مليئتان بالهدايا، إحداهما مليئة بالخير، والأخرى بالشَّر. فأي امرئ يمنحه زيوس هداياه المختلطة فتارة يصطدم بالشر، وتارة أخرى ينعم بالخير".
من الكتاب الرابع والعشرون، ترجمة عادل النحاس
* كاتب من سورية