هذا الهجوم على مسيحيي العراق

10 يناير 2019
+ الخط -
مرّت أعياد الميلاد ورأس السنة في العراق في أجواء هدوء نسبي، بعيدة عن القنابل والانفجارات التي شهدتها أعوام سابقة، لكن قنبلة من نوع آخر تفجرت مع حديث رئيس دار الإفتاء العراقية (المفتي السني) مهدي الصميدعي، عن عدم جواز الاحتفال مع المسيحيين، أو تهنئتهم حتى بالأعياد. وما أن بدأت ردود الفعل تتوالى، حتى جاء تصريح مماثل إلى حد كبير من رئيس ديوان الوقف الشيعي، علاء عبد الصاحب.
انشغلت وسائل الإعلام التقليدية والجديدة بجدلٍ محتدم حول الاحتفال والأعياد والعلاقة بين المسلمين والمسيحيين في العراق. ولكن أين هم مسيحيو العراق الذين يتحدث عنهم المفتى ورئيس الوقف؟ وهل كانوا منهمكين بالاحتفال والبهجة؟ كانت أعداد المسيحيين العراقيين قبل الاحتلال الأميركي عام 2003 تقدر بأكثر من مليون نسمة، لكن العدد انخفض إلى أقل من النصف مع موجات من الهجرة والنزوح، فقد وجد مسيحيو العراق أنفسهم عالقين في صراعات طائفية حادة، أو صراعات على النفوذ لم يكونوا جزءا منها، ولم يكن عندهم الأساس المبدئي، ولا آليات المشاركة فيها، ففي الوقت الذي سيطرت فيه الجماعات المسلحة، الشيعية والسنية، على الأحياء والمناطق، وانشغلت بالصدام مع بعضها، في تداخل أحيانا مع أجهزة الدولة الأمنية، ووقع المسيحيون المدنيون، مثل كثيرين غيرهم، ضحية تلك القوى المتسلطة.
وفي واحدةٍ من نقاط الخلط والالتباس أيضا، يبدو واضحا من الاستماع لخطاب الصميدعي وعبد الصاحب أن الهجوم موجه نحو مركّب المسيحيين- الغرب، أو المسيحيين- الحداثة، لكن 
الواقع أن المسيحيين العراقيين على وجه العموم لم يكونوا بتاتاً جزءا من مشروع غربي في العراق، بل إنهم من أكثر المتضررين والناقمين على الغزو الأميركي للعراق الذي تكاد تبعاته تقتلع وجودهم من أرضٍ عاشوا فيها منذ القرون الأولى لظهور المسيحية. أما في العصر الحديث، وبعد نشوء دولة العراق الحديثة فقد كان لشخصيات مسيحية أدوار بارزة جدا في عضوية وقيادة الحركات السياسية التي انتمى لها واتبعها ملايين من العراقيين، فمؤسس الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف (فهد) كان مسيحيا، وكذلك طارق عزيز نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية في عهد حكم حزب البعث. كانت تلك هي الحداثة التي تفاعل معها العراقيون من مسلمين ومسيحيين وغيرهم، وهي حداثةٌ لم تسجن الفرد داخل أسوار المحاصصة الطائفية التي ترسم لكل إنسان ولكل مجموعة من البشر حصة من الوظائف والأدوار لا يمكن تخطيها. تلك هي المحاصصة التي تأسس عليها النظام السياسي في العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 التي أعطت المسيحيين حفنة من المقاعد النيابية وفق نظام (الكوتا)، ومقعدا وزاريا واحدا في الحكومة، لكنها سلبتهم أمانا واستقرارا لا يستقيم العيش إلا بهما.
لجأ أكثر من صحافي وناشط عراقي، في معرض التصدّي لتصريحات المفتي ورئيس الوقف ورجال الدين الآخرين، إلى الاقتباس من نصوص دينية، يمكن اعتبارها معتدلة، إذ توجه رسالة أكثر تفهما للمسيحيين وأعيادهم. ولكن هذا ليس كافيا، فالاقتباسات والطروحات التي تحرّم الاحتفال مع المسيحيين تستند الى نصوص موجودة في التراث، أو فهم لتلك النصوص، بينما تستند الرسائل المعتدلة إلى فهم آخر. وكان من مهازل المماحكات والمجادلات التي انتشرت في وسائل الإعلام مشهد لاحد مشايخ المسلمين يشترط على نائب مسيحي أن يشهد على الهواء مباشرة أن السيد المسيح هو نبي الله، وليس ابن الله، من أجل أن يهنئه بالعيد. من يعيش الواقع ويعاني آلامه، مثل مسيحيي الموصل الذين هربوا من المدينة، ومن المدن المجاورة لها، مع احتلال تنظيم الدولة الإسلامية تلك المناطق لا يفهمون ذلك الجدل، إلا من زاوية آثاره السيئة، وتحوله إلى رسالة كراهية وتفرقة. 
لا يمثل المفتي السني مهدي الصميدعي مركز أتباع حقيقيا لدى أبناء مذهبه، فالمعروف أنه 
يدين بمنصبه للدعم الإيراني. ورئيس ديوان الوقف الشيعي، علاء عبد الصاحب، هو موظفٌ كبير بدرجة وزير، لكن تعيينه في المنصب يأتي من المرجعية الشيعية العليا، صاحبة النفوذ الأكبر، والتي أشيع أنها قد تقرّر إقالته. ليسا صاحبي أتباع كثيرين، ينتظرون منهم الإشارات للتحرّك والتحشيد، لكن تصريحاتهما كانت كافيةً لفتح جروح جديدة في العراق، ولتسميم الأجواء، ولإرسال رسالة واضحة تقول إن للتشدد وجوها متعدّدة، وإن الحكومة لا تسيطر على موظفيها الكبار، فكيف بمن يملك السلاح من الجماعات المسلحة المسيطرة على الأرض. لن تنفع الاقتباسات من رسائل وفتاوى (معتدلة)، لأن ما حصل في الواقع للمسيحيين واليزيديين وغيرهما، وللمسلمين أيضا، كان نتيجة فشل الدولة في أداء وظيفتها ودورها في مجتمعٍ، من المفترض أن يُنظر إلى أعضائه مواطنين متساوين. ربما تكمن النقاط الإيجابية في تمكّن ناشطين مدنيين من التصدّي لطروحات الصميدعي وعبد الصاحب، وفي انتقادهم علنا وبصوت عال. هي في النهاية معركة كلامية لن تغير كثيرا من حقيقة اضمحلال الوجود المسيحي في العراق، وبالتالي خسارة البلد تنوعه ونسيجه الاجتماعي. 
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
رافد جبوري

كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.

رافد جبوري