هذا التصعيد العسكري في العراق

20 مارس 2020
+ الخط -
مع انشغال العالم بأزمة فيروس كورونا، اندلعت مواجهة عسكرية جديدة بين الولايات المتحدة وخصومها في العراق، فقد أدى قصف صاروخي على أحد مواقع التحالف العسكري الذي تقوده أميركا في العراق في معسكر التاجي شمالي بغداد إلى مقتل عسكريين أميركيين وأخرى بريطانية. ردّت القوات الأميركية بعد يوم بقصف جوي لأهداف متعدّدة، قالت إنها مستودعات سلاح تابعة لمليشيا كتائب حزب الله العراقية المدعومة من إيران. على الفور عادت إلى الذاكرة الأزمة قبل نحو شهرين، عندما تعرّضت قاعدة عراقية جوار مدينة كركوك لقصف أدى إلى مقتل مواطن أميركي، لترد الولايات المتحدة بعمليات قصف على مواقع حزب الله، ثم بعد ذلك مباشرة قتلت قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي، أبو مهدي المهندس، وهو مؤسس كتائب حزب الله. كان ذلك أكبر تصعيد في المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران. وعلى الرغم من أن الأمور اتجهت إلى نوع من التهدئة بعده، إلا أن مقومات التوتر استمرت. 
اختارت الأطراف التي قصفت معسكر التاجي توقيتا حرجا جدا بالنسبة للإدارة الأميركية، إذ إن واشنطن، مثل كل العالم، مشغولة بالتعامل مع أزمة فيروس كورونا، فقد كان خبر مقتل الجنديين الأميركيين، وأحدهما ضابط، ليشكل عنوانا بارزا في الأخبار الأميركية والعالمية في الظروف المعتادة، إلا أنه في ظل التغطيات الإعلامية الموسعة والمكثفة لأخبار كورونا تراجع وتضاءل. وكذلك مرّ خبر الرد العسكري الأميركي عليه من غير اهتمام وتغطية ملحوظة في وسائل الإعلام الأميركية والعالمية. مع ذلك، كان مقتل أي مواطن أميركي الخط الأحمر الذي وضعه الرئيس 
دونالد ترامب، أمام إيران وحلفائها في العراق، وتعهد دائما برد قوي على أي تجاوز لذلك. وعلى الرغم من انشغال ترامب، بل وتخبطه في إدارة أزمة كورونا داخل الولايات المتحدة، إلا أنه كان واضحا في أنه أعطى صلاحيات الرد على هجوم التاجي لوزير دفاعه، مارك إسبر، وقد تم ذلك، لكن معسكر التاجي تعرّض لقصف آخر، بعد الرد الأميركي أدى إلى سقوط جرحى أميركيين، لتبقى سيناريوهات التصعيد مفتوحة.
اشتعلت هذه الصفحة من المواجهة كالعادة، من غير تصريح واضح من الأطراف المعنية، فالولايات المتحدة تقول إن من المرجّح أن تكون كتائب حزب الله هي المسؤولة، من غير أن تجزم تماما. أما كتائب حزب الله فهي لا تعلن رسميا تبنّيها الهجمات على التاجي أو غيره، وهي بالمناسبة لم تتبن الهجوم السابق في الأيام الأخيرة من العالم الماضي، ولكن بيانات الكتائب وتصريحاتها تؤيد الهجمات، وتتوعد الأميركيين بالمزيد. هذا الاختلاط في تحديد المسؤوليات هو طابع عام للوضع في العراق الذي يحتاج دائما إلى تفسير وبحث عميق في مشهدٍ تمارس فيه الأطراف المؤثرة علميات خداع متعدّدة المستوى.
كشفت العملية أيضا تمايزا بين المواقف السياسية في العراق، فقد استخدم الرئيس العراقي، برهم صالح، وصف الإرهاب ضد العملية، في بادرة نادرة تكشف أولا عن نمو موقف لدى جزء من الطبقة السياسية، يرفض بشدة التعرّض للقوات الأميركية وقوات التحالف. يأتي ذلك على خلفية الانقسام السياسي الحاد بشأن قضية الوجود العسكري الأميركي في العراق، فالقرار الذي أصدره مجلس النواب، بعد مقتل سليماني والمهندس، بإخراج القوات الأميركية صدر بفضل الغالبية التي تتمتع بها القوى السياسية الشيعية التي تسيطر على الوضع الميداني، بفضل أجنحتها المسلحة، ولكن القرار صدر في ظل مقاطعة كردية تامة وغياب كبير للقوى السنّية.
تواجه إدارة ترامب، والدول الغربية الأخرى في التحالف، وضعها غير المستقر في العراق، فعلى الرغم من أن الحكومة العراقية التي تسيطر عليها القوى الشيعية تراجعت عن موقفها المطالب بتنفيذ قرار البرلمان انسحاب قوات التحالف، إلا أن التصعيد أخيرا يعقد الأمور. وقد صدر موقف لافت عن قيادة العمليات المشتركة، دان بشدة عمليات القصف الأميركي، قائلا إنها أدت إلى سقوط ضحايا بين القوات العراقية. والعمليات المشتركة هي أعلى هيئة عسكرية، يتم التنسيق فيها بين القيادتين العسكريتين، العراقية والأميركية، وقوات التحالف الأخرى.
أما العراق فهو أصلا يواجه مأزقا متعدّد الأوجه، فحكومته الحالية لتصريف أعمال، وتتخبط في 
سياساتها وتوجهاتها، ففي مواجهة أزمة كورونا، مثلا، يقول وزير الصحة العراقي إنه لم يحصل على أي تمويل إضافي لمواجهة وباء كورونا، وإن إمكانات العراق هي في وضع شبيه بإمكانات الصومال، ما يضع البلد في موقف حرج، إذا ازدادت الإصابات فيه، وارتفعت إلى معدّل شبيه بالذي في إيران المجاورة. واقتصاديا، أصبح العراق، بصورة تلقائية، واحدا من أكبر ضحايا حرب الأسعار في سوق النفط العالمية التي أشعلتها السعودية، بعد فشل اتفاقها مع روسيا حول خفض الإنتاج، والعراق يعتمد، كما هو معروف، على النفط بصورة شبه كلية في تمويل نفقاته، ودفع مرتبات موظفي قطاعه العام المتضخم وغير الفاعل.
ستؤدي أزمة كورونا أيضا، على الأغلب، إلى تلاشي التجمعات والتظاهرات الاحتجاجية، وقد ضعفت أخيرا، قد يعطي ذلك رسالة خاطئة إلى الطبقة السياسية العراقية في أنها قد تجاوزت الأزمة، وهو أمر غير صحيح. إذ إن الظروف الموضوعية التي قادت إلى الاحتجاجات ازدادت وتعمقت في ظل أزمة كورونا، وتصاعد المواجهات العسكرية بين الولايات المتحدة وخصومها في الساحة العراقية.
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
رافد جبوري

كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.

رافد جبوري