هذا الجنون

20 سبتمبر 2017
+ الخط -
مر مرور الكرام خبر إصدار الحكومة البريطانية قانونا يحظر بيع المركبات التي تعمل على البنزين والديزل بحلول عام 2040، في حين يسري القانون قبل ذلك في المناطق التي ترتفع فيها نسب التلوث. وفيما كانت فرنسا سبقت بريطانيا في إصدار تشريعاتٍ مماثلة، قرّرت الصين، هي الأخرى، وضع جدول زمني للتحول كليا إلى عصر السيارة الكهربائية. وإذا أخذنا، فوق هذا، في الاعتبار الزيادة الكبيرة في إنتاج النفط والغاز (الصخري خصوصا) من دول مثل الولايات المتحدة وأستراليا، يمكننا تخيل الضغوط الكبيرة التي ستتعرّض لها أسعار الطاقة خلال المرحلة المقبلة، ويمكننا معها إدراك حجم التحديات التي ستواجه الدول العربية، المنتجة للنفط، والتي تعتمد على مساعدات الدول المنتجة للنفط، مباشرة أو عمالةً وتحويلات.
وفيما يبدو أن أسعار النفط لن تعود أبداً إلى المستويات التي بلغتها عام 2014، مع ظهور ملامح نظام طاقوي عالمي جديد، يتحول فيه مستهلكون تقليديون كبار إلى منتجين، تتعاظم بالتزامن حدة التهديدات الأمنية الناشئة عن الفوضى التي ضربت أطنابها في المنطقة، حيث تقف دول مركزية عربية على شفا الانهيار، في حين تواجه أخرى مخاطر التقسيم. وفيما تتداعى الدولة في أكبر بلدان المشرق العربي، ويُقتلع ملايين السكان من أراضيهم، ويتم تحويلهم لاجئين ونازحين ومشرّدين، يشتد الصراع على الموارد المحدودة، وغير المتجدّدة، ويأخذ طابعًا عنيفًا بين بقية سكان المنطقة الذين تضاعف عددهم مرات عدة منذ ظهور النظام الإقليمي العربي بعد الحرب العالمية الثانية، فقد ارتفع عدد سكان المشرق العربي الكبير (مصر، العراق، سورية، وشبه الجزيرة العربية) من 60 مليونا عام 1950 إلى 315 مليونا اليوم، ويتوقع أن يصل إلى 470 مليونا عام 2050، وفق تقديرات برنامج الأمم المتحدة للتنمية.
تناقص إيرادات الدول العربية النفطية وغير النفطية، مترافقا مع النمو السكاني الكبير، سيزيد الوضع الأمني السيئ في المنطقة سوءًا بطريقتين: الأولى أن انخفاض الإيرادات سيحدّ من قدرة الحكومات على الإنفاق العام، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة، وازدياد مستويات الفقر والجريمة، وتأثر الإنفاق على الصحة والتعليم، وهو أصلاً ضعيف. وإذا أضفنا إلى ذلك التهميش السياسي نصبح أمام الوصفة المعيارية المنتجة للعنف والتطرّف (اقتصادي واجتماعي المنشأ، سياسي وأيديولوجي المظهر والهيئة)، والذي قد يصيب شرائح أوسع من المجتمع، بعد أن ظل حتى الآن محصورًا في أطرافه. الطريقة الثانية، أنه مع اشتداد الضغوط على الحكومات لتلبية الاحتياجات المتزايدة لعدد متنام من السكان، قد تتطلع بعض هذه الحكومات إلى ما وراء الحدود، للحصول على مقدار أكبر من الثروة، ما يؤدي إلى نشوب أزماتٍ ونزاعاتٍ مسلحة بين دول المنطقة المتفاوتة في الحجم والإمكانات، حصل هذا بين العراق والكويت، ومن المحتمل أن يحصل بين مصر وليبيا، أو بين السعودية وجاراتها الخليجيات الأصغر حجماً.
في هذا الإطار، يتداخل الداخلي مع الخارجي، بطريقة تؤدي إلى إنتاج مزيجٍ متفجر قوامه الرئيس الفجوة المتنامية بين التوقعات والإمكانات. إذ يؤدي عجز الحكومات عن توزيع الثروة بطريقةٍ أكثر عدالةً داخل المجتمعات، إلى غياب الشفافية، وانتشار الفساد، والفشل في تلبية احتياجات مجتمع يزداد شباباً ووعياً، وسيدفع هذا كله النخب الحاكمة إلى البحث عن حلول (ثروات) خارج الحدود، بدل إعادة توزيع المتوفر منها داخلياً بطريقة أكثر عدالةً وكفاءة.
سيجرّ هذا الأمر مزيداً من التدخلات الخارجية، وسيجذب قوىً من داخل الإقليم وخارجه، يطمح بعضها في بيعنا سلاحا نصوّبه على بعضنا، ويسعى بعضها إلى ملء فراغ قوةٍ نشأ عن ضعفنا، ولدى بعض آخر أمراضنا نفسها، ويسعى إلى الفوز بجزء من ثرواتنا لتلبية متطلباته الداخلية.
ماذا فعلنا لمواجهة كل هذه التحديات؟ تركناها وراءنا، وأخذنا في تصفية حساباتٍ قديمةٍ معلقةٍ بيننا، ندفع إليها بما تبقى لدينا من ثروات، بدل استثمارها في مواجهة الصعب القادم. لم لا، أليس أول مفاخرنا، نحن معشر العرب، الكرم مع الغريب، وثانيها أننا لا ننسى ثأراً لنا، وبأسنا بيننا شديد، وثالثها أننا مجانين.