هبرماس في مواجهة رولز.. مجرد نقاش عائلي

22 يونيو 2019
يورغن هبرماس
+ الخط -

صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب "الشرعية الديمقراطية: من التعاقد إلى التواصل.. هبرماس في مواجهة رولز" لمؤلفه عبد العزيز ركح، وفيه يتناول النظرية الليبرالية التعاقدية كما تجسدت حصراً في أعمال المفكّر الأميركي جون رولز (1921-2002)، والنظرية التداولية القائمة على أسس فلسفة التواصل وإتيقا الحوار كما يعرضها الفيلسوف الألماني يورغن هبرماس (1929).

يبرز الكاتب أوجه اختلاف النظريتين وتشابههما، مفترضاً أن الخلاف الظاهر بينهما يُخفي في العمق تداخلاً وتشابهاً كبيرين؛ إذ يمكن القول إنهما أنموذج واحد صيغ بطريقتين مختلفتين، نتيجة تباين البيئتين اللتين وُضِعا فيهما، واختلاف مرجعياتهما التاريخية والثقافية.

يتألف هذا الكتاب من ثلاثة فصول وخاتمة، ويأتي الأول تحت عنون "الديمقراطية الليبرالية التعاقدية عند جون رولز" الذي يعرض النظرية ويقدمها باعتبارها غير مباشرة في المجتمع الديمقراطي، مبرزاً معناها الفلسفي وموضوعها الرئيس.

يتطرّق الكاتب أيضاً إلى إجراء الشرعية المتبع في تلك النظرية وآلية التبرير المعتمدة فيها، منطلقاً من نقد إجراء التبرير المعتمد في المذهب البراغماتي، ومركزاً على إجراء العقد الاجتماعي بوصفه إستراتيجية أولى لاختيار المبادئ وتبريرها، وذلك في وضعية أصلية وتحت حجاب جهل يضمن حياد المبادئ وكونيتها.

ويتناول ركح مبدأي العدالة المنبثقين من تلك الوضعية، ثم يبرز الطابع الديونتولوجي للنظرية من خلال تركيزها على أولوية العادل على الخير، والمعقول على العقلاني، لتكتسي طابعاً ترنسندنتاليّاً يدرجها ضمن تيارات الفلسفة الكانطية الجديدة.

يبحث هذا الفصل أيضاً في مفهومَي الأحكام الموزونة والتوازن التأملي، كمرحلة أخيرة من إستراتيجية التبرير الأولى التي تتبعها مرحلة ثانية كانت نتيجة للتعديلات التي ألحقها رولز بنظريته، استنادًا إلى وعيه المتمثل في عجز هذه الأخيرة عن التعامل مع واقع التعددية المميزة المجتمعات الغربية؛ إذ ينتقل التبرير الأخلاقي من مستوى التفكير الأناني إلى مستوى النقاش من خلال الاستعمال العمومي للعقل، والاعتماد على إجراء الإجماع بالتقاطع كآلية تأخذ في الحسبان التعددية الأيديولوجية للمجتمعات المعاصرة.

في الفصل الثاني بعنوان "الديمقراطية التداولية عند يورغن هبرماس"، يشرح الباحث حيثيات الانتقال من نظرية الفعل التواصلي إلى نظرية الحق، ثم يتناول كيفية صوغ نظرية الحق وفق مصطلحات الفعل التواصلي، من خلال الكشف عن الازدواجية المحايثة للحق الحديث؛ باعتباره وسيطاً، وباعتبار أنه مؤسسة من جهة، وأنه متأرجح بين الواقعية والمعيارية من جهة أخرى.

أما الفصل الأخير، فهو تحت عنوان "الليبرالية التعاقدية والديمقراطية التداولية"، فيدرج فيه ركح أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف بين الليبرالية التعاقدية والديمقراطية التداولية، محاولاً في مبحث أول إظهار أن النقاش الدائر بين نظريّتَي رولز وهبرماس هو نقاش عائلي، وأن اختلافهما الظاهر في بعض القضايا لا يعدو كونه سوءَ تفاهم.

يدلل الكاتب على هذه الفرضية رفض المفكرين النزعات اللامعرفية أو الشكية في الفلسفة العملية، وتأكيدهما الطابع الموضوعي للقضايا الأخلاقية وإمكان تأسيسها عقلانيّاً، من خلال التركيز على الجانب الإجرائي والطابع الكوني في النظرية الأخلاقية، ما يجعل منهما أنموذجين رائدين في البنائية المعاصرة.

يفسّر الكاتب هذا التشابه بدرجة كبيرة انتماء النظريتين إلى المرجعية الفلسفية العملية نفسها، المتمثلة في الديونتولوجيا الكانطية، وبتأثرهما بالمرجعية السيكولوجية نفسها المتمثلة في نظرية التطور الأخلاقي عند لورنس كوهلبرغ.

من جهة أخرى، يتطرّق المؤلف إلى أصل الاختلاف بين النظريتين، باعتباره راجعاً إلى تباين الأدوات المنهجية والخلفيات الفلسفية التي ترجع كل منهما إليها، ويعرض الانتقادات التي وجهت إلى نظرية العدالة من الديمقراطية التداولية وردود رولز على ذلك، مركزاً على دور الفلسفة السياسية بين التصور السياسي والتأسيس الفلسفي، ومونولوجية الوضعية الأصلية وأسبقية الحقوق الأساسية على المقتضى الديمقراطي.

يخلص ركح في خاتمة كتابه إلى أن المواقف التي تطرحها الليبرالية السياسية الدستورية لدى رولز والنزعة الجمهورية الكانطية عند هبرماس هما أقرب إلى بعضهما مما يبدو في الظاهر: "وإذا كان متتبعون كثر للنقاش الذي دار بينهما، يعتقدون أنه نقاش يعكس اختلافًا جوهريًّا وتعارضًا فعليًّا في تصور الشرعية الديمقراطية".

ويبين أن النظرية الأولى "تنظر إلى الديمقراطية كمثل أعلى من التعاون المنصف وتضيّق التداول الديمقراطي الفعلي من خلال إقصائها الحجج التي لا تتماشى وقاعدة معينة من المعقول محددة بطريقة مستقلة بتصور سياسي للعدالة، في حين تتصورها النظرية الثانية كمثل أعلى من الحكم الذاتي من طريق التداول العمومي وترفض أن تلحق التداول بمبادئ مستقلة، بل تجعله المصدر الرئيس لكل شرعية".

ويضيف "نميل إلى الاعتقاد، وفق ما بيّن ذلك ستيفان كورتوا، أن التعارض الظاهر بين النظريتين حول مصادر شرعية الحق والمبادئ الدستورية لمجتمعاتنا الليبرالية ليس بذلك الإطلاق بمعنى أنه ليس اختلافاً في المبدأ بقدر ما هو تفاوت في الدرجة أو في التركيز على هذا الإجراء أو ذاك".

المساهمون