شهد لبنان، في السنتَين الأخيرتَين، نشاطاً معمارياً من نوعٍ مختلف، يقوم غالباً على مبادرات لمعماريّين ومتخصّصين في التخطيط المديني؛ حيث يجرى تنظيم جولاتٍ في بيروت وغيرها من المدن اللبنانية، ضمن خطّة تهدف إلى التعرّف على ما وقع للأحياء والمعالم، سواء أثناء الحرب، أو خلال "إعادة الإعمار" وحتى اليوم.
مؤخّراً، أُقيمت جولات في طرابلس وبعلبك، بعضها أخذ طابع النقد المعماري، بينما غلب البُعد الاستكشافي والسياحي على بعضها الآخر، ومنها ما أخذ شكلاً تاريخياً اجتماعياً. وحين تذكر طرابلس، فإن من بين أول ما يجرى التنويه إليه في عمائرها "المعرض الدولي" الذي بناه المعماري البرازيلي أوسكار نيماير (1907 - 2012)، أحد أبرز أسماء العمارة المعاصرة. وقد كان المكانُ إحدى محطّات هذه الجولات.
في هذا السياق، يُنظَّم في "المركز الثقافي البرازيلي اللبناني" ببيروت، معرضٌ بعنوان "نيماير في لبنان"، ابتداءً من الأربعاء المقبل وحتى الثامن والعشرين من شباط/ فبراير الجاري.
في نهاية الخمسينيات، ارتأى الرئيس اللبناني الراحل فؤاد شهاب بناء "معرض لبنان الدولي الدائم" (يُسمّى اليوم معرض رشيد كرامي) في طرابلس. في تلك الحقبة، كانت بغداد قد بنت معرضاً دولياً، وكذلك دمشق وأزمير التركية، فالتحقت طرابلس بهذه المدن بعد صراع داخلي ضد استحواذ بيروت على المشاريع الاقتصادية. بدأ العمل بالفعل في المشروع عام 1967، وانتهى عام 1974، ضمن مساحة تصل إلى مليون متر مربع. وحين اشتعلت الحرب الأهلية، كان كلّ ما تبقّى من المشروع هو الانتهاء من المسرح الدائري وبعض القاعات.
تحوّلت المنشآت، خلال الحرب الأهلية، إلى مكان مثالي لممارساتٍ ذات طابع حربي؛ خصوصاً التدريبات العسكرية على القنص والرماية وإخفاء الآليات، إضافة إلى أنه بدا مكاناً مناسباً للجوء إليه عند القصف، لا سيما وقد طُلب من نيماير تصميم ملاجئ خفية تحت الأرض، كثيرون إلى اليوم لا يعرفون عن وجودها.
إضافةً إلى ذلك، سُرقت من المعرض مولّدات الكهرباء والأبواب والنوافذ والبلاط، وفقاً لما يروي المعماري وسيم ناغي في سلسلة مقالات مفصّلة نشرها العام الماضي تحت عنوان "أسطورة نيماير في طرابلس".
يصف ناغي التصاميم بأنها مستقبلية، جمع فيها المعماري البرازيلي "الانسيابيةَ إلى المباني المستقيمة المصقولة"، و"مزَج الخطوط المستقيمة والمنحنيات الجريئة، إلى جانب التمادي في الهيكل الإنشائي بطريقة بهلوانية وصادمة أحياناً". ولأنه يحبّ تداخل العمارة بعناصر الطبيعة، فثمّة "حيز واسع من المساحات الخضراء والمسطّحات المائية التي تعكس واجهات المباني".
من الواضح أن المساحات والأبنية صالحةٌ كفضاء للفعل الثقافي، ولكن حتى اليوم لم يجر استغلالها بالشكل الذي يليق بها ويستفيد من إمكاناتها، ويحترم ذاكرتها التي تحمل بذور التحديث قبل أن تهدرها الحرب.
تتباهى مدينة طرابلس في جولاتها السياحية والثقافية بأن المعماري البرازيلي الشهير بنى فيها هذه العمائر. أجل نيماير مرّ من هنا فعلاً... ثم ماذا؟ المؤكّد أن ما حدث هو تحويل مشروع معاصر إلى "موقع أثري" بُني في القرن العشرين.