على الضفة اليسرى من الكورنيش الواقع شرقي كاراج مدينة "ديريك" من أعمال روجافاي كردستان (شمال سورية حالياً)، ثمة ساحة فارغة معبّدة ومسوّرة أقام فيها "حزب الاتحاد الديمقراطي" الحاكم احتفاليته النوروزية هذا العام ودون شريك هذه المرّة بعد أن حظر معظم أحزاب الحركة الكردية وأغلق، بقوة قانونه المدعوم بالسلاح، جميع مكاتب أحزاب "المجلس الوطني الكردي" غير المرخّصة لديه، والتي رفضت الاعتراف بهذه اﻹدارة ومخرجاتها وظلّت ترفض الترخيص لديها حتى بعد تشميع مكاتبها.
كما يخرج كل شيء عن مساره بتقادم اﻷزمان وتغيّر اﻷحوال، خرج عيد النوروز عن حاله منذ سنوات طويلة حين اختطفه الساسة والمتحزّبون وحوّلوه إلى ما يشبه اجتماعاً حزبياً صاخباً في الهواء الطلق تشهد على ذلك برامج الاحتفال البائسة لدرجة التفاهة والاستغباء.
حوّلت اﻷحزاب النوروز منذ نصف قرن إلى صلاة جمعة (على النمط اﻷموي)، لا مجالس عائلية ولا أحاديث جانبية ولا صوت يعلو فوق صوت الميكروفون الوحيد الذي تقبض على عنقه ثلّة من الرفاق يعتلون منصّة تعلو على الجمهور علوّاً مادياً ومعنوياً.
وكما يتلوّن شعاع الشمس بلون الزجاج الذي يمرّ عبره، تتلوّن الخطب والمواعظ الحزبية الديماغوجية، ويجري تقديمها تارة على شكل أغنية وتارة على شكل مسرحية وتارة على شكل قصيدة لا تزيد حصّة النوروز فيها على العنوان.
أما باقي الوقت فخطب نارية مباشرة تدعو بصوت زاعق إلى السلام ووحدة الكرد يتخلّلها بين الفينة واﻷخرى تذكير بخيانات "البارتي الديمقراطي" و"تآمره المتواصل" على الشعب الكردي في شنكال وخاني سور. وكما يستحيل أن تمرّ خطبة الجمعة من دون ذكر اسم الله، يستحيل كذلك أن يمرّ هذا العيد الكردي الوحيد دون ذكْر اسم القائد اﻷسير في "إيمرالي" على كل لسان ارتقى صاحبه المنبر كلازمة مباركة يستفتح بها حديثه.
نصف الحاضرين، على أقل تقدير، ذكوراً وإناثاً يتبخترون بالزي العسكري المموّه وجميع النصف اﻵخر - مع استثناءات قليلة - من موظّفي اﻹدارة الذاتية المدنيين في مسالك التعليم والبلديات والكومينات وسواها.
ولا ينجح المكياج الفاقع في إخفاء ملامح الحزن والتعاسة التي تحفر أخاديدها بعمق في وجوه فتيات سحل قطار العمر جثث أحلامهن، وتركهن فريسة للوحدة وحتى هذه الفرصة الوحيدة لهن عادة في العثور على شريك الحياة غدت عديمة القيمة مع الفرار الشبابي الجماعي الذي خلّفته زوبعة قانون التجنيد في اﻹدارة الذاتية.
استرجعت لوهلة أن احتفالات النوروز كانت فيما مضى تدوم سبعة أيام متصلة كان نصيب الملك ووزرائه وعساكره منها يوماً واحداً فيما كانت سائر اﻷيام احتفالاً للناس يتبادلون فيها الزيارات والتهاني وتدور فيه من دار إلى دار سلال الفاكهة والحلويات ويتلاقى فيه الشبان بالشابات (لنتذكّر هنا مم وزين)، وتلقى فيه أشعار الغزل واﻷحاجي والمفاكهات وسوى ذلك من أعراف المجتمع وعادات أهله.
بالمختصر، يحزنني القول إنه جرت عملية مسخ رهيبة وتدريجية لهذا اليوم المبارك فأصبح يوم خطب وأعلام وشعارات واقتصر جمهوره على المسلّحين والموظّفين ومن يلوذ بهم، وجرى استغلال واقعة خرافية تتقاطع مع الفتح الميدي لبلاد آشور، وتتعلق بجزّ كاوا الحداد رقبة الملك الضحّاك وتصويرها على أنها "الثورة الكردية اﻷولى" على الظلم والطغيان ما يمنح تبريراً شرعياً لتحزيب العيد اليوم (لا يغيّر أداء أغنية أو رقصة فولكلورية شيئاً من هذا التوصيف بالطبع).
وتلك جناية واقعة على ثقافة شعب بالمعنى الواسع لكلمة الثقافة، ولا أجد مبرّراً للانسياق اﻷعمى خلف هذا الانحراف والنظر إليه كأمر طبيعي سوى الاعتياد، على أن أجمل ما في الاعتياد أنّه عارض، والعارض لا يستعصي على العقل وإن استعصى على العين.
* كاتب ومترجم سوري كردي