نهر (ترنت) والجزائريّ الطائر

29 مارس 2016
من أعمال أمل العاثم(عن موقعها الإلكتروني)
+ الخط -


هذه النظرة منكِ
فاتحة للصباح
أداوي بها يأسي المدلهم
أعالج جرحَ النهار حتى حلول الظلام
***
أي أمل يتردد صداه بين النهر والغابة المحيطة..؟ النهر يعيش حياته الخاصة في هذا السديم الرباني، متآخياً حدّ الذوبان والامّحاء في الحقول الشاسعة والأشجار الباسقة التي يسقيها ويغذيها برحيق الحياة الصافي، غير مبالٍ بالحروب والكراهيات والأعراق.. هذا النهر الصغير مقارنة بنهر (التايمز).. وهو أيضا لا يحمل ذاكرة النهر الكبير، عدا تجليات وحدته الروحيّة مع الفضاء والعشب والحيوات المتدفقة في ظلال النعمة والسلام..
على عكس ذلك النهر الكبير الذي انطلقت منه سفن الإمبراطوريّة، أو التي ستكون، محمّلة بالأسلحة والعنف لغزو العالم، من هذه الجزُر البريطانية، لتكون سيدة البحار والصحارى والبلدان على خلاف قول (إليوت) أيها التايمز الحبيب إن صوتي ليس عالياً ولا قوياً.. كان صوت الإمبراطورية عالياً وقوياً يكتسح العالم قبل الأفول الحتمي أو الضعف على أقل تقدير.
هذه الجزر التي كنا ندرسها في المقررات المدرسية، طقساً، سكاناً ومساحة، هذه الأخيرة، كما
يقول المقرر، لا تكبر عن مساحة بلادنا (عُمان).
ذاكرة التايمز، كانت معبأة بذكريات الحروب والغزو، الانتصارات والهزائم.. أمام هذا النهر الصغير المتدفق بحزن، الذي أجلس على ضفته بخشوع روحي حيث الشمس تخالها تقترب من الغروب، لكن هذا الاقتراب بحاجة إلى ساعتين كي يصل إلى نهايته من فرط كثافة السحب والضباب المتصاعد من أعماق الغابة والنهر..
أُسرّحُ النظر إلى آخره، في المتاهات الخضراء الضاجة بالصمت والغموض... ألمح قصراً في أعلى هضبة تشرف على النهر وسط الغابة، تخيلته أحد قصور الكونت (دراكولا) رغم أن أسطورة مصاص الدماء الشاعري تجري وقائعها في رومانيا، لكن كاتب هذه الحكاية السوداء ينتمي إلى الأرض الانجليزية.
وفي كل الأحوال، الخيال لا تحدّه سلطة الأماكن والمسافات، وربما تخيلي له مهجوراً ومرعباً جاء عبر سراب المسافة الضبابية التي تفصله، وكون رأسي مسكوناً بالخوف والهذيانات، وربما تحوّل إلى فندق، ومن الرائع أن يقضي المرء أياماً فيه كنوع من تجربة روحيّة وجماليّة، تعميق العلاقة بالذات وامتدادها مع الطبيعة عزلةً وتأملاً، هذا النزوع الحميم والحلم الذي تصادره الجماعة الوطنية ومشاغلها حتى لو كانت في شكل عائلة حميمة، ويصادره صخب الأمكنة والبشر حتى لو كانوا أقل ثقلاً كونهم غرباء وعابرين..
سألت عن (القصر)، وسؤالي امتد إلى المرجع الكوني (غوغل)، عبر الصديق الدكتور سلطان العويسي الذي كنت بصحبته، هو المقيم مع زوجته الدكتورة بشاير الريامي، حيث يشكلان نموذجاً مشرقاً للوفادة العلميّة من عُمان الى ديار الغرب والذي أفاد على الفور بأن هذا المنزل الكبير يحتوي على خمسين غرفة، بُني في القرن الحادي عشر ومنذ ثلاث سنوات اشتراه ملياردير باكستاني يُدعى (أنور رشيد) يمتلك فنادق في (دبي)، والكثير من ملاجئ العجزة في بريطانيا.. لكن الثري الباكستاني الأصل، لم يمكث فيه إلا ثلاثة أشهر وانتقل بسبب ذعر عائلته التي اكتشفت أن هذا القصر مسكون بالجن والعفاريت، وقد رأتهم زوجته يأكلون في المطبخ ويشاهدون التلفزيون في أحد طوابقه، وهو الآن معروض للبيع بأقل من قيمته الحقيقية.
فكرت أن هذه هلوسات بشر قدموا من بلاد متخلّفة، ولا يتحمّلون مثل هذه العزلة الجماليّة، العزلة التي لا يستطيعها إلا الكبار، حسب الصوفي (الجنيد). وليس ذلك النوع من المترفين الذين تغريهم حياة القطيع والثرثرة والإشاعات.. وهناك أيضا سيطرة دافع التجارة الوحشية التي تجرف قيمها كافة أنحاء هذا الكوكب المترنح، فارضة منطقها الفظ، وإلا فهذا الأثر الذي صمد أمام آلة الزمن عشرة قرون يُسام في سوق المال كأي بضاعة استهلاكية عادية.. وفكرت أن هناك بلداناً وأوطاناً بالكامل، في العالم خارج أمم الظاهرة الغربويّة، كما دعاها الفيلسوف الروسي، تُسام وتباع بشكل أسوأ وأحقر من البضائع والمنتجات الاستهلاكية. نهر (ترنت) المنساب بشفافية وطفولة، وهناك جامعة باسمه.. جامعة باسم نهر.
***
أحدّق في صفحات النهر المتقلّبة الزرقاء، الذي هو جزء من أنهار الإمبراطورية التي حملت السفن الحربيّة تمخر العباب نحو أرجاء العالم الشاسعة، نحو الهند والشرق الأوسط وأفريقيا التي استوطن أجزاءً منها أسلاف عُمانيون ورحلوا بعد عقود طويلة من السكنى والمقام الرغيد في ضوء الجفاف والفقر الذي كان يضرب الأرض العُمانية الأم. رحلوا أو رحل من تبقى منهم عنوةً وقسراً إثر مجزرة مروّعة، ليس في فظاعتها ووحشيّتها فحسب، وإنما بشكل موازٍ أو يفوق المجزرة فداحةً، هو ذلك الصمت الذي كفّنَ الحدث ولفّه بعنفه عقوداً طويلة..
وكأنما تلك الدماء الغزيرة التي أُريقت على ذلك النحو من البشاعة والبهيميّة، كما تكشّفت لاحقاً، لا تستحق حتى الإشارة إليها، لا تستحق رقماً صغيراً في روزنامة التاريخ الروتينيّة.
وعلى ما تقطع به البراهين والأدلة، أن الإمبراطورية البريطانيّة العظمى، وقفت كما في سائر المذابح والمجازر والاحتلالات، خلفها وأشرفت على التنفيذ والتحريض، بعد أن جرّدت العُمانيين من أي وسيلة دفاع عن النفس، فذُبِحوا مثل قطعان نعاج أمام وحوش عطشى كاسرة. إنها محطة من محطات المجد الانجليزي ذي القيم الدستورية والديمقراطية الأكثر عراقةً في أوروبا والعالم، وفي هذا المنحى يتوحّد الانجليز مع أقرانهم الاستعماريين الآخرين، حين يتعلّق الأمر بالشعوب الأخرى، فهم لا يعترفون بأي قيم دستورية أو حتى أدنى درجات القيم الأخلاقية والإنسانية في مثل هذه الأحداث العاصفة، وتُرتكب أقصى المذابح والإبادات...
وإذا كانت هذه من بداهات التاريخ البشري الذي يأخذ الحيّز الأكبر من العار والمذابح والاحتلالات، فما سرُّ ذلك الصمت الظلامي المطبق، أن تمنع الضحيّة من سرد حكايتها، من قول كلمة للتاريخ؟!!
ها هو النهر الذي كنت أتوسّل إليه أن يحمل الذاكرة المتعبَة إلى ذلك الفردوس الأرضي في
الجزر البعيدة، يحملها إلى متون التاريخ الدموي والمجزرة.
***
يا أغنية ترفرف بحنان حول الجثة
التي أعدمها الجلادون قبل قليل
إن روحي لترتاح في واحة حزنك الشفيف
لكن الجثة تأكل ليلَ البشرية
بالشكوى والحنين
***
ذلك الفراغ الدموي
الذي لا يكبر ويتعاظم في تخومه
إلا الوهم والحقد وآلام الطبيعة
والتاريخ
***
مذياع المقهى يبث موسيقى رقيقة (كانتري ميوزك)، وهي أغان لكيني روجرز، رومانسية الزمن الماضي.. في شرفة المقهى الخارجية أحدّق في المارة بأعمار وألوان وأشكال مختلفة، كلهم مواطنون أمام القانون مهما شطّت نزعة التفوّق والتميُّز لدى السكان الأصليين، هذه من سمات المواطنة الحديثة لدى الغرب الذي يتقدم تاريخه وراهنه، كونه على نحو من عدالة وإنسانية داخل حدوده المعهودة، وبالغ الوحشية والتدمير، تجاه الآخر، خارج هذه الحدود...
المارة مندفعون إلى الهدف الذي رسمه نظام الإنتاج الصارم والندرة ممّن هم خارج هذا الهدف من متقاعدين ومتشردين.. الطقس ما زال في شهر حزيران (يونيو) يميل إلى البرودة، والسحب تتدافع نحو بحر الشمال الغاضب غالباً.
أفكر في (صدمة الطقس) أكثر من (صدمة الحضارة والحداثة)، هذه لم تعد بذلك الوقْع الصادم كما صوّرته الأدبيات والنصوص المقارنة في ظل عولمة الاتصال والتواصل الخادعة على المستوى الشعبي وليس النخبوي كما جرت العادة..
تلطّفت تلك الصدمة وتأنسنت، وإنْ بشكل سطحي، حتى لم تعد كذلك على المستوى القيمي والمعرفي..
المارة يندفعون، الكلاب الضَجرة تواصل النباح، ربما الحنين.. الأغاني تنهمر على شرفة المقهى والمارة والكلاب، رومانسية جارفة تزيد الجو لطفاً وأناقة... أستحضر الجزائري عبدالله طرشي في دمشق، الذي ورد اسمه في مطلع هذه الرحلة، هو أول من عرّفني على هذا النوع المعبّر من الموسيقى.. كان يسمع (روجرز) وآخرين، الجزائري المفارق المولع بعالم اللغة الانجليزية أكثر من الفرنسية.. حين تبعثر شمل الأصدقاء بعد الألفة والإقامة المشتركة في تلك البلاد المنكوبة، انقطعت أخبار عبدالله مثل الكثيرين، هو الذي كان مشروع فيلسوف لولا معاداته للكتابة وأكثر منها الحداثة في نسختها العربية، وهو كآخرين غير مؤدلجين في تلك المرحلة، يتحدث عن الفلسفة ليس كوعي كلي ومنظومة شاملة مثل الماركسية السائدة آنذاك والهيغيليّة، وإنما كتصور جزئي، وربما كحكاية ورؤيا حول الذات والشخوص و"أسلوب حياة" ينزع إلى سعادة ممكنة حتى وسط الشقاء والمرارات، حسب فلاسفة الحياة المعارضين في هذا المنحى لأسلافهم الموسوعيين الكبار، وهو ما يمتد بنسبٍ بعيد إلى الفلسفات الشرقية.. وبقدر ما كان حديثا في الفلسفة كان كلاسيكيا في الأدب، فالرواية لديه تقف عند الانجليزي (دش لورنس)، حيث يرتفع الجنس إلى مشارف الرؤيا والتصوّف، نساء لورنس الملتهبات ينبثقن من بيئة هذا الريف الانجليزي، وقيمه ومصانعه وحقوله.. مرة أصدرتُ ديوان شعر في تلك البدايات المبكرة، ولأنه كان منغمساً باندهاش في أجواء الحداثة الشعرية السائدة وأجواء اللغة والشكل وإغرائهما الاستعراضي، قال لي حين قرأ الديوان، أعجبتني فيه قصيدة واحدة، أما الباقي فخارج الوعي الشعري بالنسبة لي ذوقاً ومفهوماً.. انقطعت أخبار عبدالله مثل الكثيرين، وقد ذكّرني به قبل هذه الأغاني الريفية في باريس، المغربي رشيد صباغي، والجزائري قادر بوبكري، كلهم يتحدّرون من السلف السقراطي، بعدم الوقوع في إغراء الكتابة وإن ظلوا مجهولين إلا لدائرة الأصدقاء.. كلهم يملكون عمقا فلسفياً ورؤية مميّزة للوجود والعالم..
ذات يوم جاء هاتف مجهول إلى مجلة (نزوى)، اتضح أنه عبدالله طرشي، يتصل من (تشيكيا)، قال إنه انتهى به المطاف في تلك البلاد لحظة الانهيار السوفييتي، وأنه يدرِّس اللغة الانجليزية هناك، اتفقنا على التواصل واللقاء.. مرّت الأيام، وذهبتُ إلى الجزائر التي ما زالت تخرج، مضرّجة من تلك المذبحة الأهلية البشعة، وأنا أتحدث مع محمد بنيس وواسيني الأعرج وآمال موسى أمام قاعة قصر المؤتمرات التي شهدتْ في اليوم نفسه مذبحة من نوع آخر بين بنيس الذي كنت بجانبه مشاركا في الندوة التي نظمتها اليونسكو، وبين نفر جزائري استُفزّ من أطروحات بنيس... في تلك اللحظة حيّاني شخص بحميمية ومودة فائقة، لم أعرفه لأول وهلة، ثم تبيّن أنه عبدالله، رجعت لأحييه بمعرفة أكيدة.. لقد عاد إلى الوطن وهو يدرِّس في إحدى الجامعات الجزائرية، وكان يقتني سيارة مرسيدس أنيقة نستقلها دائما بدل سيارة المؤتمر المدججة بالحراسة "في الجزائر لا بد من سيارة قويّة، لأن عصبيّة المرور صعبة جداً"، وروى أنه لم يكن ينوي العودة من بلاد أوروبا الشرقية، لكن الظروف أجبرته: ذات ليلة كان عائدا إلى منزله فاعترضته مجموعة من (الزعران)، أوسعوه ضرباً وجراحاً... وكجزائري فقد، أمام هذا الحدث المهين الجارح، كل مبرر في الوجود، إلا إذا أخذ بثأره من أولئك القتلة، ولم تفد الفلسفة وعمق الرؤية الوجودية والموسيقى، ظهر (النيف) ودفعت به الغضْبة الجزائرية التي تشبه الغضْبة المضريّة، حسب بشار بن برد، إلى ترصّد تلك المجموعة حتى تبيّن الشخص الذي أذلّه وجرحه، أكثر من غيره، غمدَ في بطنه سكيناً حتى خرجت من ظهره أو كادت، وأرداه قتيلا، ثم هرب من تلك البلاد التي تشهد انفلاتاً أمنياً بعد القبضة الحديدية للنظام الشيوعي. استطاع الهرب حيث لا ملاذ إلا الجزائر... ها هو الوطن يلوح من جديد على رغم الخيبات والمرارات؟ ذات يوم آخر جاءني هاتف من صديق مشترك في الجزائر، قال: الطرشي مات في حادث بسيارته، ظننتُ أنها مزحة أول الأمر وسيكلمني بعدها؟ لكن اتضح أن تلك المزحة هي الحقيقة الدموية بعينها..
***
ما للقادم من تلك البلاد الثكلى
وتغريد العصافير، ونشْوة
الشجر المتمايل في تلك الصباحات الغائمة؟
***
خطر لي:
أن الحياة مجازفة مضمونة العواقب،
طالما أن الموت عاقبتُها ونتيجتها الحتمية.
***
ثمار هذه الشجرة الناضجة، مُثْقلة بالدموع،
دموع الأرامل واليتامى في البلاد التي دمرتها الحرب
***

**مقطع من نص طويل
دلالات
المساهمون