حينما خرج من فلسطين، كان يودُّ أن يرى في هذه الأرض، شجرة الأناناس.
كان يتخيّلها شجرة مورقة، كتلك التي خلقها الرب في الجنة.
هجر أرضه على أمل
جديد لم يجده.
في هذه القصيدة،
سيكون لجدّي أن يجمع ثمار الأناناس من قمم الأشجار.
لأنه في القصيدة، حتّى ثمار الأناناس تُزهر من أشجار غير موجودة
والفاكهة القديمة والموطن الأصلي.
مع هذا،
فإنّ ما أريده أن ينبت هنا ليس شجرة، بل الأمل أن ثمّة مكانا تنمو فيه
أشجار الأناناس.
■
رحل عن فلسطين
بحماسة الرجال الذين يبحرون في الأرض.
عرف أنهاراً وجبالاً وطيوراً
تعمدوا بلغته.
بإصبعه، الذي يماثل الرب، قال وهو يشير للأفق:
البيت، هو القرب من البحر
ليس مهمّا إن كانت مياه البحر المتوسط أو الأطلنطي.
المهم هو الريح.
الريح
التي تجلب الأغاني.
■
في بيت الحياة، ما يهمّ هي النوافذ، بالكاد تفتح عينيك على الحديقة فتقفز رسائل الحب كالأرانب، كمنجاتٌ تطير أسراباً، بيانوهات منحنية أمام الجداول، أشجار أناناس راسخة في الأفق: في غرفتي الصغيرة، في مأواي الصغير، ثمة حجرة تعلّمت كيف تبقي أعينها مفتوحة، لأن النوافذ لا تنفد أبداً.
■
جاء جدّي من بلد غير موجود،
ليبحث عن شجرة غير موجودة.
هو أيضاً لم يعد موجوداً.
يا إلهي، اصنع لجدّي شجرة
وازرعها في أرض
وأطلق عليها
اسم
فلسطين.
■
الفضاء، في الطبقة الثانية. سربُ طيورٍ مستدير
يشوّه الأفق.
مدركين كنه الشيخوخة، يبدؤون بالرفرفة ولا ينتهون.
مواسم سوداءُ تحوم:
إنها قصص الحب التي التهمها زحل.
تَبتلُّ الأشياء وتتسمّم في النهر الأسطوري،
الأجداد ينسون اللغة الجديدة ويعودون لمفردات الطفولة، للمربّى المنتظر عند ساعات الموت الجائع.
يردّدون القصص ذاتها كل مرة كي لا ينسوها.
كي لا ينساها أحد.
لأن الموت يصل حينما تضيع الذكرى الأخيرة.
■
إنها الصدفة التي تنير الطريق
ومضة ضوء سيارة عابرة،
أو المصابيح التي تشتعل من وقت لآخر.
أسير وأفكر بالعائلة
وأن ذاكرة العائلة تمتلئ بالومضات بالطريقة ذاتها،
كي تصير جزءاً من الحياة
كأضواء السيارات التي تعبر الطرقات المعتمة.
■
دفن جدّي بأسنانه نوتة مبهمة على طرف الغليون. لاحِظ أبعاد السيجارة: ثمّة نتوء في مغلّف الصورة. لا يهمّ تاريخ الصورة أو القميص المطرز. خلف نظارته تتلاشى المشاهد، ضباب نظراته يحجب العدسات. هذه ليست قبعة، إنه وجهه المتأمل كتمثال نصفيٍّ منصوب في الصالة. الحذاء، ساعة الجيب، حذاؤه، قلمه، سيرته الذاتية التي تهلهلت كتابتها. أما أنا، فعظامي ستصير غداً غباراً لا تحفظ كأساً ولا معطفاً ولا حذاء.
■
زرعتُ شجرة صنوبر، لكني سأقول إنها شجرة أناناس،
كاريوتاكيس علّمني أن الأشجار تظلّ واقفة
تماماً كالأزرق الذي يواجه العاصفة.
تعرف أشجار الصنوبر كيف تشيخ،
وفي هذا، فهي تُشبه الأسئلة.
لا وجود لأشجار الأناناس
لكني عرفتها
حين حدَّثني ذلك الرجل، عن الأمل.
لعلّهم يدفنونني يوماً بجانب شجرة أناناس.
وليضعوا هذه القصيدة بجانب قبري،
فالأمر سيَّان، في نهاية المطاف.
■
عمر الزيتون في قرية الولجة أربعة آلاف عام. ماؤها يبلّل التاريخ ويصنع القَدَر. دمعة واحدة تكفي لإعادة الحياة للقاء جديد بين دمي وأسلافي، الذين رأتهم هذه الشجرة يجولون حولها منذ قرون وأمكنة؛
لا يهم كم سيتأخر المطر في الإبحار بالأرض، ما دام أيار سيصل لأعلى ورقة على الشجرة. بعد آلاف السنين، تلتقي العائلات على شكل أشجار.
■
على ضوء شمعة،
تصبح قصص العائلة
أمثالاً حقيقية.
النصوص الأدبية
ليست أكثر قوة
من القصص المقتسمة
مع أرغفة خبز العشاء.
الأشجار
تحيا
بفضل الضوء والمياه،
لا بفضل كتب
علم النباتات.
■
أراجع منذ سنوات صورة رجل ملتقطة منذ عام 1953. رأيت كيف جعل الزمنُ الحبرَ يتجمَّعُ في حافَّتي عينيه، وكيف يطير الريحُ داخل الصورةِ شعرَه. يمضي الزمن كتحرّك الجبال الضخمة، وفي هذا الصمت المطبق، أنت بالكاد تشعر بالكلمات.
صديقي يعرض لي مقابلة سمعية بعنوان: محمود درويش: شاعر العالم العربي. صوته يذكرني بصورة رجل آخر، لكني أجد له صورة معتمة. أهو الزمن الملوّن بالغروب؟ أم أنه حقّاً يوجد في داخل هذا الإطار المشقوق أحدٌ ما يخلق الليل، كأنما الصورة مدينة حقيقية؟
"لماذا تركت الحصان وحيداً؟ ـ لكي يؤنس البيت،
يا ولدي ، فالبيوت تموت إذا غاب سكانها…" محمود درويش
كان آخر المهاجرين بين إخوته العشرة من بيت لحم. وكان أول من مات في المنفى. عرفتُ أن بيته كان يحتضر في فلسطين، وربما كان الشاعر قد ترك الحصان وحيداً، لأنّه خمّن أن الأحجار التي يدوس عليها، كانت بقايا جدران غرفة طفلٍ ما. فحينما تُهدم الجدران، الصمت أيضا يتحطَّم.
سافرتُ لفلسطين كي أقرّب آذاني أكثر للطرقات، وكي أستمع لصوت المياه المتدفقة حين تتحطم داخل الجدار، لكني سافرت أيضاً،
كي أُخبر أبنائي أن الوطن لا يُرسم بخطّ منغلق، وهو ليس نهراً، وليس جزيرة؛ الوطن يمتدّ في الأحجار التي تحفظ أسرار الأسلاف.
سافرت لفلسطين كي أقرّب الطريق لأذنيَّ.
* Rolando Kattan شاعر هندوراسي من أصل فلسطيني
** ترجمة عن الإسبانية: غدير أبو سنينة