نقص الإنسانيّة المكتسبة!

07 ديسمبر 2014

علم لـِ(بريسون لابيراس)

+ الخط -

تفيد إحصاءات منظمات دولية بأن نحو مئة مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر، في حين أن ما يقارب الأربعين مليون عربي يعانون من نقص التغذية، أي ما يعادل 13% من السكان تقريباً. آخر الأرقام تشير إلى أن خط الفقر يتحدد بـ1.80 دولار يومياً، وثمة فقراء عرب لا يحصّلون دولاراً في اليوم، في وقت يعلن فيه سنوياً عن قوائم تضم أصحاب المليارات والملايين العرب ممّن تصل ثرواتهم مجتمعة إلى 166.07 مليار دولار!

في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، شهدت روما مناقشة منظمة الفاو تقرير فجوة الغذاء في العالم، وتصادف مع هذا النقاش صدور التقرير السنوي الذي يصدره بنك "كريدي سويس" حول الثروة ـ تراكمها وتوزيعها في العالم، ولامس التقرير اختلالاً نسبياً في توزيع الثروة، وأبرز مواطن الجوع والألم والمعاناة الحقيقية في عالم يسيطر فيه 20% من السكان على أكثر من 80% من المصادر الغذائية الرئيسية! أو، بعبارة أخرى، يمتلك أغنى 200 شخص في العالم ثروة تقدّر بدخل %40 من سكان العالم الذي لا يزال فيه 850 مليون شخص يأوون إلى مضاجعهم، كل ليلة، وهم جوعى.

يجتاح المرء حزن رهيب، وأسى مرير، وهو يتابع الأرقام أعلاه التي تتزامن مع ما تتناقله مواقع إعلامية عن إنفاق أثرياء العرب أموالهم، فثمة خبر تداولته المواقع الإلكترونية والإعلامية مفاده بأن ثرياً عربياً، لم يعلن عن اسمه وجنسيته، دفع مقابل جلسة مع الممثلة الأميركية، كريستين ستيوارت، 15 دقيقة فقط، نصف مليون دولار. طبعاً لا ندري ما هي القيمة التي يطلبها هذا الثري سوى قيمة الاستعراض ليجالس هذه الحسناء؟ ما فعله هذا الثري يخلو حتى من قيمة ذكورية. لكنه كان مصراً، فدفع المبلغ، وفق موقع "آي. أونلاين"، مقدماً، قبل أن يجلس مع بطلة سلسلة "توايلايت". 

لا شك أنّ مثل هذا الكلام وهذه القصص الحقيقية والواقعية للأثرياء العرب لا ينتهي، على امتداد الوطن العربي كله، لعظم الكارثة وفداحتها، فقد ورد إلى ذهني، وأنا أقرأ عن جياع العرب وبؤس الفقراء، وأتفحّص دراسات العوز ومعدلاته والأرقام المهولة التي يرصدها الإحصائيون حول جياع العرب، ورد خبر شراء ثري عربي حوض استحمام بستة ملايين دولار! أو الذي أنفق ما يتعدى 50 ألف دولار في مقابل الحصول على "آيباد" مطلي بالذهب ومرصّع بالأحجار والبلاتين!

شرّ البلية التي تُضحِك، ولا سيما وأنت تقرأ الأرقام أعلاه، وتتمعّن بها، وتحصي المشردين جياع العالم الذين يموت منهم الملايين سنوياً، وإذ بخبر يشير إلى شراء ثري عربي قطعة ملابس داخلية للاعبة التنس المعتزلة آنا كورنيكوفا، بمبلغ 30 ألف دولار، في حين تصل قيمتها السوقية إلى حوالي 10 دولارات فقط!

الأمثلة، يا رعاكم الله، لا تكاد تحصى عن أثرياء ورجال أعمال عرب، أنفقوا أموالًا طائشة، وبلا طائل ولا معنى. مثلاً، قد يكون مفهوماً هذا الخبر، على الرغم من غرابته، وهو عرض رجل أعمال كويتي مبلغ 10 آلاف دولار، مقابل الحصول على عربة خضروات الشاب التونسي محمد بوعزيزي الذي كان سبباً في إسقاط زين العابدين بن علي. وقد يكون مفهوماً، أيضاً، عرض رجل أعمال سعودي دفع 10 ملايين دولار لحذاء منتظر الزيدي، الصحافي الذي رماه على الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، بل ربما يكون متفهماً عرض شيخ عربي على رئيس الأوروغواي، خوسيه موخيكا، الملقب بأفقر رئيس في العالم، مليون دولار لشراء سيارته من طراز فولكس واغن. لكن، ماذا يفعل رجل الأعمال العربي الذي اشترى ملابس داخلية للاعبة تنس بـ30 ألف دولار؟

قد يشتري أحدهم لوحة فنية مثلا بسعر خيالي، فإنه، بذلك، ينظر لها في أنها قيمة مالية، تستحق المخاطرة، أو قلْ المغامرة. غداً سيبيعها بسعر أعلى. هذا ما يفعلونه في الغرب، عادة، بالقطع الأثرية. إنها، ببساطة، تتحول من قيمة ثقافية إلى شيك ذي قيمة نقدية.

ألا يدري أن الذي اشتري قطعة ملابس داخلية (مستعملة) بـ30 ألف دولار أن أكثر من 6 ملايين طفل يموتون سنوياً جوعاً؟ وألا يدري، وتلك مصيبة، ذلك الثري العربي الذي دفع 10 ملايين دولار مقابل حذاء منتظر الزيدي أن هناك ملايين البشر، أطفالاً ونساءً ورجالاً وشيوخاً (بني آدميين يعني)، يتعرّضون للموت جوعاً وحسرة، نتيجة الجفاف وبفعل سوء التغذية!

صحيح أن مَن "شحّد ماله ما ظلم"، كما يقولون، لكن هذا لا يعني أن ينفق ثري عربي ملايين الدولارات لقاء شهوة عابرة! ولا يوجد في قاموس الإنسانية أي معنى لذلك الذي اشترى حوض استحمام بـ6 ملايين دولار، بينما هناك أطفال جوعى يتألمون، وفي الوقت نفسه، يتهدّدهم خطر الانقراض. نحن نتحدث، يا رعاكم الله، عن عصر يبحث فيه أطفال سورية والعراق والصومال واليمن عن خبزهم في التراب، كما يبحث الدجاج عن طعامه!

إنها العولمة المتوحشة التي تعني أن يملك أيضاً، حسب المعطيات، أقل من حوالي مئتي ألف شخص ما يملكه حوالي 60% من الناس القابعين في السلّم الأدنى، وأن يعيش حوالي 2.6 مليار من البشر على أقل من دولارين في اليوم. هذه الرأسمالية التي علّمتنا منطق الربح، بأي شكل وبأي ثمن وبأي وسيلة، والاستغلال من دون التفكير في أوجاع الناس وآلامهم، فأي مشهد مؤسف هذا الذي يموت فيه أطفال من الجوع، بينما يبذّر آخرون الأموال على ملابس داخلية للاعبات التنس! إننا نعيش، فعلاً، في زمن نقص الإنسانية المكتسبة!

3467CF47-90FA-451A-87BD-72D9E261E143
خالد وليد محمود

كاتب وباحث، نشرت دراسات ومقالات عديدة. وله الكتب "شبكات التّواصل الاجتماعي وديناميكية التّغيير في العالم العربيّ" و"آفاق الأمن الإسرائيلي: الواقع والمستقبل" و"مراكز البحوث في الوطن العربي" و"قلاع اللغة العربية ورياح الثورة الاعلامية". ماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة الأردنيّة.