عن الجرائم الإلكترونية ظاهرةً عالمية
معروفٌ أنه كلما ازداد استخدام الإنترنت في الحياة الشخصية أو المهنية ازدادت مخاطر السقوط كضحية لجرائم الإنترنت. إذ تعاني الدول والمجتمعات والأفراد اليوم من انتهاك صارخ للحقوق والخصوصيات الإلكترونية، وذلك في ظلّ الانتشار المتسارع للجريمة الإلكترونية المتنامية، والتي ازدادت بالتزامن مع التطوّرات الحاصلة على صعيد التقنيّات والتكنولوجيا الرقمية وأدوات الفضاء السيبراني، بحيث يسّرت وسهّلت سبل التواصل وانتقال المعلومات بين مختلف الشعوب والحضارات في مجال مفتوح تجري فيه كل حركة المعاملات عبر مسالك الاتصالات المتنوّعة. وأضحى الفضاء السيبراني بيئة المجتمع الحديث ينتج مثلما ينتجه الواقع المادي أنواعا جديدة من الجرائم تسمّى الجرائم الإلكترونية مثل القرصنة، والاحتيال، والتخريب، والتعامل في معلومات العدالة والأمن والنظم البنكية والدخول إلى أنظمة الحاسوب وقواعد المعلومات وسرقتها والعبث بها، وليس انتهاءً بانتهاك حقوق التأليف، ونشر الصور الإباحية والاستغلال الجنسي، والتجارة غير القانونية (كتجارة المخدّرات) والتعرّض لخصوصية الآخرين عند استخدام معلومات سرّية بشكل غير قانوني. ولا تقتصر الجرائم الإلكترونية على أفراد أو مجموعات، وإنما قد تمتد إلى مستوى الدول لتشمل التجسّس الإلكتروني.
يجد كثيرون من مستخدمي الفضاء السيبراني أنفسهم ضحايا للجرائم الإلكترونية التي تهاجم مواردهم المالية؛ إنها مشكلة واسعة النطاق، أثرت على حياة لا حصر لها. ولا يزال اعتمادنا على الإنترنت وشبكة الويب العالمية يجعلنا أكثر عرضةً لتهديدات القراصنة الذين ينشطون في عوالم الإنترنت المظلم وضحايا الجرائم الإلكترونية، والتي قد تتضمَّن تبادل معلومات وبيانات ذات حساسية وسرّية مسروقة، أو بيانات مالية وأرقام بطاقات الائتمان والبطاقات الشخصية. كما يستخدم الإنترنت المظلم كسوق سوداء، من خلال بيع البضائع المسروقة، أو تجارة المخدّرات وتجارة البشر. ويمكن أن يتطوّر الأمر إلى جرائم أكثر خطورة مثل الإرهاب الإلكتروني.
تكلف الجريمة حوالي ثمانية تريليونات دولار في السنة، و667 مليار دولار في الشهر
اليوم، ونظراً إلى التحولات الرقمية الكبيرة والمتسارعة التي تشهدها المعمورة، ظهرت عصابات عابرة للقارّات يمكن أن تخترق حسابات مستخدمي الإنترنت والهواتف الذكية عن بعد لتستخدمها في عمليات الشراء أو لأغراض أخرى، لتغدو الجريمة السيبرانية تمثل خطراً أكبر حاليا أكثر من أي وقت مضى. حيث يمكن أن يقوم بأنشطة الجرائم السيبرانية والمعلوماتية أفراد أو مجموعات صغيرة ذات مهارة تقنية محدودة نسبياً، أو من الجماعات الإجرامية العالمية عالية التنظيم التي قد تشمل مطوّرين مهرة وآخرين من ذوي الخبرة ذات الصلة. وقد تسبّب هذه الأنشطة خسائر كثيرة، سواء المالية أو سرقة معلومات حسّاسة، وقد يصل أثر هذا النوع من الأنشطة إلى التأثير بشكلٍ مباشرٍ على الأمن القومي للدولة.
رقمياً وحسب برنامج مشاريع الأمن السيبراني، من المتوقع أن تكلف جرائم الإنترنت العالم ثمانية تريليونات دولار في العام. إذا قيست الجريمة الإلكترونية كدولة، فستكون ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والصين. بينما تتوقع تقارير دولية عديدة أن تزداد تكاليف الأضرار الناجمة عن الجرائم الإلكترونية على مستوى العالم بنسبة 15% سنوياً على مدى السنوات الثلاث المقبلة، لتصل إلى 10.5 تريليونات دولار سنويًا بحلول عام 2025، ارتفاعًا من ثلاثة تريليونات دولار في عام 2015.
يقدّم التقرير الرسمي للجرائم الإلكترونية لعام 2022 حقائق وأرقاما وتنبؤات وإحصاءات اقتصادية إلكترونية تنقل حجم التهديد السيبراني الذي نواجهه وبيانات السوق للمساعدة في فهم ما يمكن فعله حيال ذلك، كما يقدّم تفصيلاً لتكاليف أضرار الجرائم الإلكترونية المتوقعة في عام 2023، فمثلاً تكلف الجريمة حوالي ثمانية تريليونات دولار في السنة، و667 مليار دولار في الشهر، 154 مليار دولار في الأسبوع، 21.9 مليار دولار في اليوم، وحوالي 913 مليون دولار في الساعة، و15.2 مليون دولار في الدقيقة و255000 دولار في الثانية.
تتوقع تقارير دولية أن تزداد تكاليف الأضرار الناجمة عن الجرائم الإلكترونية على مستوى العالم بنسبة 15% سنوياً على مدى السنوات الثلاث المقبلة
تحاول الحكومات والمنظّمات الدولية مكافحة الجرائم الإلكترونية بإنشاء تشريعات وقوانين تحدّ من انتشارها وتعاقب المرتكبين، كما تهتم بتعزيز الوعي الرقمي للجمهور وتعزيز مهارات الأمان الإلكتروني لتقليل التعرض للهجمات الإلكترونية. وهنا أشير إلى مسألةٍ في غاية الأهمية في ظل توجّه حكومات كثيرة إلى تقنين هذا المجال وحوكمته، فتقنين الجرائم الإلكترونية يتطلّب توازناً حساساً بين حماية المجتمع وحرية التعبير. هناك بعض النقاط الرئيسية التي ينبغي مراعاتها لضمان تقنين الجرائم الإلكترونية من دون المساس بحرية التعبير:
تعريف واضح للجرائم، أي أن يكون التشريع واضحاً ومحدّداً بشكل جيد بشأن أنواع الأنشطة الإلكترونية التي تُعتبر جرائم، مع تحديد المعايير والمعاقبات بشكل محدد وليس فضفاضا ويحتمل أكثر من تفسير. ضمان الشفافية، وأن تكون الإجراءات القانونية المتعلّقة بهذا النوع من الجرائم واضحة ومتاحة للجمهور، وذلك لتجنّب التأويل الخاطئ واستخدام القوانين بشكل تعسفي. احترام حقوق الدفاع، وأن يحصل المتهم بجريمة إلكترونية على فرصة عادلة للدفاع عن نفسه وممارسة حقوقه القانونية. تحديد الغرض والنية مع تجنّب تقنين أنشطة تعتبر تعبيراً شرعياً أو نقداً بناء. تحتاج مكافحة الجرائم الإلكترونية إلى تعاون دولي فعّال، حيث يجب مراعاة تبادل المعلومات بين الدول بشأن الجرائم الإلكترونية المحتملة. وكذلك مراقبة واحترام النفاذ القضائي بحيث تتم مراقبة استخدام الصلاحيات القانونية للتحقيق ومتابعة الجرائم الإلكترونية بشكل منتظم وفقاً للإجراءات القانونية المناسبة. وتبقى مسألة التوعية والتثقيف لعموم المستخدمين بأنواع الجرائم الإلكترونية وكيفية الحماية كأولوية لتعزيز الوعي الرقمي والسلوك الآمن عبر الإنترنت.
صحيحٌ أن التهديد والابتزاز والتلاعب بالبيانات من دون تصريح، وكذلك انتحال الشخصية والذم والقدح والتحقير ونشر الإشاعات وتشويه السمعة واغتيال الشخصية تعتبر، في بعض القوانين، "جرائم إلكترونية"، ولكن في ظل سرعة نمو العالم الرقمي واستخداماته في مجالات كثيرة ومتعدّدة وازدياد الاعتماد على الشبكة العنكبوتية والفضاء السيبراني بشكل كبير والتوجّه العالمي نحو مستقبل رقمي، أو ما يعرف بـ"المواطن الرقمي"، فإن احترام النقاط السبع أعلاه، والتركيز على تحقيق التوازن بين الأمان الإلكتروني وحرية التعبير بعيداً عن الحجب والملاحقة والرقابة، أهم في تقنين الجرائم الإلكترونية بشكل فعال وعادل، ويا ليت قومي يعلمون.