نعمة التونسيَّة: ما من أحد يتذكرني اليوم

05 يناير 2016
نعمة التونسية (العربي الجديد)
+ الخط -
"فنّانة تونس الأولى"، لقب استحقّته الفنّانة نعمة التونسيَّة عن جدارة، وذلك حسب وصف الروائي والمسرحي يوسف إدريس. نعمة التي قال فيها الشاعر صالح جودت: "يتلألأ منها الأداء الحي"، إذ يمتلك صوتها طاقةً ضخمةً تتحمَّل كلَّ الأنواع الغنائيَّة. ولدت نعمة عام 1934، وتمرَّنت على الغناء في "المعهد الرشيدي للأغاني التونسيَّة"، على يد أكبر الأساتذة. أجادت "الفوندو"، وهو قالب غنائي تونسي من حيث اللهجة الموسيقيَّة، يقع ما بين الشعبي والتقليدي من حيث المقام والإيقاع. زارتها "العربي الجديد" في منزلها بقرية "أزمور"، حيث استقبلَتْنا بحفاوة.

كانت السيدة نعمة على علاقةٍ متميزة بالزعيم الراحل، الحبيب بورقيبة، فتجدها طوال حديثها عنه ممتلئةً بالحنين والوفاء، "السيد الرئيس أعطاني الاحترام والقيمة، وكان يحبني كثيرًا. كنت أدخل القصر دون إذن، ودون تقديم مبررات للدخول".


وتستحضرُ بابتسامةٍ عريضةٍ المناسبة الأولى التي جمعتها به قائلةً: "كنت آنذاك لا أزال صغيرة جداً، في احتفاله بأولى أعياد ميلاده بمدينة المنستير، كنت برفقة فرقة الإذاعة، وكنت قد أعددت له أغنيةً كان مطلعها: فرحنا بميلادك يا زعيم الخضراء، وبفضل جهادك تونسنا حرة. وفيما بعد، غنَّيتُ له بعضاً من أغاني السيدة صليحة، فقامت الدنيا ولم تقعد تفاعلًا. وكان ذلك بحضور كل مطربات تونس، لكنّه اختارني أنا من بينهنَّ. ومنذ ذلك الحين، أصبحت أرافق السيد الرئيس في كل سفراته وتنقَّلاته داخل البلاد وخارجها. حتى أنَّي رافقته لدى زياراته لمصر ودول الخليج وفلسطين، خلال الفترة الحرجة التي مرَّ بها، والتي تعرَّض فيها لكثير من الانتقادات السياسية في المشرق العربي. وحين قَدِمت السيَّدة فيروز إلى تونس، طلبني لمرافقتها، وكلَّف الحرس الوطني بالبحث عنّي وإحضاري إلى القصر”. وتكمل السيّدة نعمة بأن الرئيس بورقيبة بكى عند سماع أغنيَّة "يا حبيب تونس يا عزيز علينا من كيد الأعداء برايتك تحمينا”.

إقرأ أيضاً: طوابير المسافرين في المطار تثير استغراب التونسيين

ورغم سعادة السيَّدة نعمة بزيارتنا، إلا أنَّ الحسرة والمرارة لم تغيبا عن وجهها، وذلك بسبب تجاهل وسائل الإعلام اليوم لأغانيها، خاصَّة منها الإذاعة الوطنيَّة. قالت في ذلك: “غنت نعمة لكل مناسبات تونس وأعيادها، ولكن أين هي اليوم؟ أشتهي أن أسمع ولو أغنية واحدة لي. لا يذاع من رصيدي إلا بعض الأغنيات، التي نادراً ما يتذكّرونها ويكررونها".


وتكمل بحزن: "ما من أحدٍ يتذكّرني، أو يتحدث اليوم عما قدمَتْه نعمة للفن التونسي، وللأعمال الخيرية، في حين لا يفوتون الفرصة لتمجيد الفنّانين الأجانب”. وتكمل نعمة في شكواها عمّا تتلقاه من التلفزة والإذاعة الوطنيتين، إذْ عملت بهما كموظَّفة مُتعاقدة، ووهبتهما حياتها، وأمَّنتهما على جميع أعمالها، دون أن تحتفظ بأيِّ تسجيلٍ لها، قائلةً: "كانوا يتجاهلونني سابقًا بحجة وجود بن علي، اليوم وقد رحل، أين الوصال؟ هلا سألوا عني؟ كانوا يضغطون على الزر فيجدون نعمة أمامهم تحيي الحفلات دون مقابل. ضحَّيتُ بكلِّ الدعوات التي وُجِّهتَ لي للهجرة إلى الشرق من أجل بلدي، خطواتي كلها قمت بها وحدي. عشت الفن وحدي. كنت أغنَّي وانصرف، وأنا مأخوذة بحبِّ الجمهور والسعادة تغمرني. ولم أكترث قط لتحقيق الشهرة وجمع المال".


وعند سؤالِ السيَّدة نُعمة عن سبب تمسُّكِ الجيل الذي عايشَتْه بالطابع التونسي الغنائي، رغم تزامنه مع عصر العمالقة الكبار في الفنِّ العربي، تجيبُ لـ "العربي الجديد": "كان همُّنا كفنّانين هو السموُّ بالفنِّ التونسي، وإيصاله إلى المستمع العربي، وإلى كل العالم. لم يكن همُّنا التقليد، إذْ كانت الأغنية التونسيَّة عزيزةً. كُنَّا نكافح من أجلها، ونسهرُ الليالي ونشقى، وعند كلِّ مناسبة وطنيَّةٍ نبقى في الإذاعة حتَّى طلوعِ الفجر. تعِبْنا لأجل ترسيخِ الطابع التونسي في أغانينا، التي هي بالنسبة إلينا جزء من هويّتنا. كنت أطمحُ إلى زيارة العالم العربي بصحبة فرقتي الخاصة، تماماً كما كان يفعل الفنانون الكبار من جيلي، غير أن الإمكانيات المالية خانتني. كما أني لم أجد الإحاطة اللازمة، إذ لا بد للفنان من يحتضنه ويسانده، سواء من دولته، أو من رجال الأعمال الذين يثقون في فنه. فالفن ليس صوتاً فحسب، وإنما هو كتلة متكاملة، تجمع بين الموهبة والصوت والشخصية والقدرة والمال والقيمة".

إقرأ أيضاً: عليّة التونسيّة.. من ينسى "ع اللّي جرى"؟

أمَّا عن علاقتها مع الفنّانة الرّاحلة علية، فتكمل السيَّدة نعمة: "علاقتنا كانت علاقة مودّةٍ واحترام، ولم أحقد يوماً عليها، وفرحِتُ لنجاحاتها، وكنت دائمة الاتّصال بها، وصِرْنا بمثابة الأختين. ولم أحمل يوماً عداءً لأيّ فنّان. كرَّستُ حياتي فقط لأبنائي وللفن. وعند رحيل السيّدة علية، كنت كمن توفّى له فردٌ من العائلة".


وعند سؤالها عن علاقتها بالنجوم الكبار في الفن العربي، انطلقت في الحديث بغبطةٍ وحبّ مستحضرة التفاصيل، وكأنَّها تعيشها للتو. ومن ذكرياتها الجميلة تسرد لنا: "حضرت مع السيدة أم كلثوم حفل غداء، خلال زيارتي لمصر سنة 1969 ضمن احتفالات رأس السنة، بعد أن أرسلت لي ولعلية دعوات خاصَّة لحضور حفلها. وكنت قد التقيت بها قبل سنة عندما زارت تونس. عبد الحليم حافظ أحبني كثيرًا، وأعجِب بفني، وكان بمثابة أخٍ لي. في باريس التقيت بالأستاذين فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب، وكلاهما عبَّرا لي عن إعجابه وتقديره لفنّي.

حتّى أنّي لما سألت عبد الوهاب لماذا لا تأتي إلى تونس، أجابني في دعابة: عندما أتلقى دعوة من نعمة سآتي إلى تونس. كذلك السيَّد مكاوي وعبد المطلب اللذان زاراني في بيتي بتونس. الكل ألحَّ على ضرورة بقائي في مصر، كما تلقيت دعوة للقيام بجولة في دول الخليج، لكن تعلُّقي الشديد ببلدي وعائلتي، حالا دون قبولي لكل هذه العروض، حيث كنت أخشى المغامرة".
وأخيراً، في تقييمها للوضع الحالي للأغنيةِ في تونس، تقولُ السيَّدة نُعمة: "الأغنية التونسيَّة مُحاصرة، فكلُّ من يمتلكُ صوتاً جميلاً يهرع إلى الشرق، بحثاً عن الشهرة والانتشار، كصابر الرباعي وذكرى رحمها الله. بتنا أغرابًا في إذاعتنا وتلفزتنا، فأغانينا لا تذاع".



المساهمون