نصائح وقهوة

09 يوليو 2015
+ الخط -
أفكر بالكتابة عن القهوة، الشيء العجيب الذي يهبني، كل صباح، جمال الأصدقاء وسلام يومي واستقرار يدي، لكني لن أشعر برهاب الكتابة عن القهوة لأن محمود درويش كتب عنها، فالكتابة عن القهوة ليست أوقافاً شعرية لحبيب أرواحنا وقلوبنا درويش. الكتابة ليست اتصالا تلفونيا بشخص ما لطلب حجز الفكرة، هي ليست تذكرة لحضور فيلم أو مسرحية، ليست مقعداً في مدرج يعج بالمشاهدين أمام مباراة كرة قدم. الأدباء والفنانون لا يشترون، الأفكار ليست شقة للبيع، أو أرضاً للتطويب والتسجيل في الطابو.
الأفكار حرة مثل الهواء، تتجول في الطرقات، وتحت الشمس الحارقة، مثل مسعود الأعرج بائع القداحات والعلكة، المتحمس القادم من مخيمي القريب من المدينة. لا يقف مسعود عن زاوية واحدة، قدماه تلتهمان الشوارع، يدخل في عتمة زقاق ويخرج من ردهة مؤسسة، ويندس في زحام موقف سيارات، أو سوق تجاري. حول مسعود وخلفه عشرات الشبان يتجولون مثله يبيعون القداحات وأغلفة الهويات والعلكة. هذه المهنة غير مكتوبة باسمه في سجلات البلدية. هذه المهن الحرة التي أساسها التجوال الحر لا يشرف عليها القانون، ولا ينظمها موظف بلدية، هي تلك تماماً أفكار الكتابة، تتحرك بعشوائية ونزق ومزاج مربك، لتستقر في أحضان الشخص الحسّاس الذي اسمه أديب، أو فنان، فيتعامل معها وفق مزاجه وبصمة روحه ولون شخصيته ورائحة ثقافته، فتخرج منه، تحمل اسمه وهويته البيولوجية، لكن الغريب أن الفكرة نفسها التي أسلمت جسمها للشخص الحساس خرجت منه، لتذهب إلى آخر يحمل مزاجاً آخر، وتقنية تفكير وإحساس مختلف، فتخرج منه بشكل ليس هو الذي في الشخص الذي قبله. وهكذا يتعاقب على الفكرة نفسها آلاف الأشخاص، يدخلونها كلٌ من زاويته، من مدخله. تكرار الدخول من المدخل نفسه هو أعلى درجات السقوط، هو الكارثة الفنية بعينها والابتذال نفسه، والانحطاط نفسه، أفكار الكتابة ليست لأحد، عدوها هو مكرر فاقد زاويته ورائحته الخاصة، تمقت الأفكار الذين يقفون على بابها حائرين، فكل الأبواب والنوافذ أمامهم. تم الدخول منها، ولا قدرة لديهم، هم الجدد البلهاء على ابتكار نافذة، جديدة في حائط جديد، هؤلاء هم الفاشلون، ولدينا منهم كثيرون.
ليس محمود درويش الوحيد في العالم الذي شرب القهوة، وليس وحده الحسّاس في العالم، لكن الرائع في تجربته أنه دخل هذا الدخول المدوي الدرامي لفكرة القهوة من بابٍ خاص، لا يجوز الدخول منه مرة أخرى، فذلك سيصبح سرقة، والسرقة هي تماما سرقة مفاتيح الأبواب، جوهر لغز الكتابة هو في اسم الاستفهام: كيف أكتب وليس ماذا أكتب. ساراماغو كتب عن الموت كذلك محمود درويش فعل، كل منهما دخل إلى فكرة الموت من بابه الخاص. تشرّد جورج أورويل في باريس، كذلك حدث مع هنري ميللر، كلاهما كتبا عن التشرد. ولكن، كل من زاويته، كل من ذكرياته ووجعه المميز، وهواجسه الخاصة.
هذه نصائح لصديق لي (شاعر شاب)، شكى لي رعبه ليلة إمساك أدبي مخيف من فقدان الأفكار الجديدة، فكل شيء قاله محمود درويش، وكل الأحاسيس أحسّها، وكل الوجع توجعه، وكل الموت ماته، وكل الأمل مارسه، وكل الرعب خافه.
عن ماذا أكتب يا صديق؟ عن ماذا أكتب؟
-أكتب عن رعبك ووجعك وأملك وموتك. ولكن، بطريقتك بتجربتك، بذكرياتك، بليلك، بمدينتك، برائحتك.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.