للوهلة الأولى، يبدو أن تاريخ السينما المصرية كله قائم على الرجال، وأن النساء فيه مجرد وجوه جميلة لنجمات يتصدَّرْن "أفيشات" الأفلام كعوامل جذب، بأقل قدر من الإبداع الفكري والتعبير عن قضايا المرأة بشكل حقيقي. لكن مع بعض التعمق في تاريخ ومسار السينما في مصر، يتضح أمر مغاير تماماً، أساسه أن صناعة السينما بدأت من سيدات ورائدات جرى تهميشهنَّ مع الزمن لصالح الذكور. ومع ذلك، ظلت المحاولات مستمرة لبعضهن من أجل البقاء في الصورة والتعبير عن قضايا ومشاعر ورؤى المرأة. هنا استعراض للتاريخ، البعيد والقريب، من خلال 5 سينمائيات يعود إليهن الدور البارز في صناعة الأفلام، وتناول قضايا المرأة.
عزيزة أمير... أول فيلم مصري
من الملفت أن أول فيلم مصري في التاريخ، قامت بإنتاجه وإخراجه وبطولته امرأة، هي عزيزة أمير، الرائدة الحقيقية في صناعة السينما في مصر. فمع عام 1926 أقنعها سينمائي تركي يدعى وداد عرفي أن تنتج فيلماً اسمه "نداء الرب". ولكن بعد فترة، وقعت بعض المشاكل بينهما، فقررت عزيزة أمير أن تكمل الفيلم بمفردها، وتعيد كتابة السيناريو وتقوم بإخراجه، إلى جانب كونها المنتجة. وغيرت اسم الفيلم إلى "ليلى". وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 1927، وفي قاعة المتروبول بمنطقة عابدين في القاهرة، أزاحت الستار عن أول إنتاج سينمائي مصري في تاريخ الأفلام. ولم تتوقف عزيزة أمير عند هذا الحد. صحيح أنها لم تخرج بعد ذلك سوى فيلم واحد عام 1933 تحت اسم "كفري عن خطيئتك"، ولكنها في المقابل استمرت في إنتاج وبطولة الأفلام لقرابة الـ25 عاماً، معطية الفرصة للعديد من المخرجين المصريين في تجاربهم الأولى، وفي مرحلة مبكرة جداً، ساعدت في أن تكون هناك "صناعة سينما" في مصر، حتى توفيت عام 1952 بعد مسيرة حافلة ومهمة جداً.
آسيا داغر... منتجة لنصف قرن
ظهرت آسيا داغر في دور صغير بفيلم "ليلى"، وأقنعتها عزيزة أمير بأن تنشئ شركة إنتاج سينمائي خاصة بها في تلك المرحلة. لتبدأ آسيا رحلتها مع الإنتاج مع شركة "لوتس"، والتي استمرت لمسيرة طويلة امتدت لنصف قرن، استطاعت فيها أن تتجاوز كل الخسائر والمشاكل والتغيرات السياسية، وتبقى صاحبة تأثير لا يضاهى في الصناعة السينمائية. وإلى جانب إنتاجاتها الرائعة قبل ثورة يوليو/ تموز 1952، ومساهمتها في صنع أفلام مثل "ليلى" (النسخة الناطقة عام 1942)، أو "أمير الانتقام" (مع أنور وجدي 1950)، أو "ساعة لقلبك" (الذي أطلق نجوماً مثل شادية وكمال الشناوي 1950)، إلا أن مسيرتها بعد الثورة كانت ملفتة ومؤثرة أكثر، متخذة العديد من الرهانات الإنتاجية الكبرى، وأشهرها الكلفة الضخمة لفيلم "الناصر صلاح الدين" (يوسف شاهين 1963)، والذي وصلت ميزانيته لـ120 ألف جنيه (أكثر من ضعف ميزانية أي فيلم آخر في تلك الفترة)، ولكنها أيضاً وقفت وراء عدد من روائع الأفلام والمخرجين الجدد، مثل "حياة أو موت" (كمال الشيخ 1954)، "رد قلبي" (عز الدين ذو الفقار 1957)، "يوميات نائب في الأرياف" (توفيق صالح 1969).
فاتن حمامة... أكثر من ممثلة
ليس الأمر فقط في كونها الممثلة الأهم في تاريخ السينما طوال الـ100 عام الماضية، ولا حتى أنها كانت عنصراً دائماً في أفلام المخرجين المصريين لمدة نصف قرن، بل ودعمت ظهور بعضهم من الأصل؛ مثل مشاركتها في باكورة أفلام يوسف شاهين وكمال الشيخ، وإنتاجات مهمة لصلاح أبو سيف وهنري بركات، أو، لاحقاً، في أفلام جيل الثمانينيات مثل خيري بشارة وداوود عبد السيد. ولكن الشيء الرائع في فاتن حمامة هو مساهمتها بوعي وذكاء في عكس صورة وقضايا المرأة طوال الوقت، وبطريقة لا تضاهيها فيها أي ممثلة مصرية أخرى، وأفلام مثل "الباب المفتوح" (1963)، عن رواية لطيفة الزيات، التي تحكي بالكامل من وجهه نظر وأزمات المرأة في مجتمع ضاغط، أو "الحرام" (1965)، المطروح من وجهة نظر سيدة ريفية، ويعكس منظوراً مختلفاً للخطأ والصواب وأن المرأة فقط هي التي تتحمل نتائجهما المجتمعية، أو "إمبراطورية ميم" (1972)، عن الأم التي تحمل العائلة بمفردها بعد وفاة الأب وتكون قادرة على ذلك.
إيناس الدغيدي.. الصدام مع السائد
لا تملك إيناس الدغيدي سمعة طيبة بين صناع السينما في مصر، ربما لأنه تم حصارها، أو حصرت نفسها بنفسها، في أفلام الإغراء والمراهقين، ولكن في صورة أبعد من ذلك قليلاً، تعود تحديداً لأفلامها الأولى، فإن وجودها كان مهماً وفارقاً بالنسبة لـ"أفلام المرأة" وعكس قضاياها وتحدي الصورة السائدة في المجتمع عنها. الفيلم الأهم في هذا السياق هو "عفواً أيها القانون" (فيلمها الأول عام 1985)، والذي يتحدى النظرة السائدة لقضايا "الشرف"، والتي تقضي بحكم مخفف في قضايا قتل الرجال لزوجاتهم في حال اكتشاف خيانتهن، وبعقوبات مغلظة (تصل للإعدام) لو كانت مرتكبة الجريمة سيدة. ويتساءل الفيلم عن سبب تلك التفرقة القانونية والذكورية جداً في فعل متطابق. فيلم "القاتلة" (1991)، يحاول تناول الانتهاكات التي تتعرض لها النساء في مصر لدرجة تدفعهن للجريمة والانفجار في لحظة.
إنعام محمد علي... المرأة و"أشياء أخرى"
تمتلك المخرجة إنعام محمد علي، مسيرة طويلة ومتنوعة جداً في السينما وكذلك التلفزيون، فقد كانت من أوائل العاملات في التلفزيون المصري منذ نشأته، وأخرجت عدداً من السهرات والحلقات التلفزيونية القصيرة خلال الستينيات، وساهمت بعد ذلك في تطوير المواد الخاصة بالسيدات من خلال إدارتها لبرامج المرأة داخل قطاع التلفزيون المصري في منتصف السبعينيات، قبل أن تعود للإخراج في مسلسلات طويلة، أهمها "الحب وأشياء أخرى" (1986)، و"ضمير أبلة حكمت" (1991)، وكلاهما من تأليف أسامة أنور عكاشة، والثاني بطولة فاتن حمامة، وتقدم فيهما صورة مختلفة عن السائد للمرأة وعلاقتها بالمجتمع. ثم مسلسلها الأشهر في نهاية التسعينيات "أم كلثوم"، السيرة الذاتية الأكثر نجاحاً في تاريخ التلفزيون المصري، والذي يحتفي أيضاً بمن هي، ربما، أقوى وأكثر السيدات تأثيراً في مصر خلال القرن العشرين بكامله.
أما في السينما، فمن الملفت أن إنعام محمد علي حازت على ثقة كبرى لتقديم أفلام لها صبغة وطنية وعلى صلة بقصص المخابرات والحرب، وتحديداً فيلمي "حكايات الغريب" (1992)، الذي يدور حول البحث عن مواطن مصري اختفى من السويس بعد حرب أكتوبر، و"الطريق إلى إيلات" (1993)، عن مهاجمة ميناء "إيلات" الإسرائيلي أثناء مرحلة حرب الاستنزاف، وأصبح الفيلمان في ما بعد من الكلاسيكيات التي تعرض دائماً في الأعياد القومية بمصر.