31 أكتوبر 2024
نجوم من تراب
أحتفظ أحيانا في ملاحظاتي الإلكترونية في جهاز الهاتف بنوادر وحكايات تراثية قديمة مما أقرأها في مصادرها، أو تعرض لي بطريقةٍ أو بأخرى، لظرافتها أحياناً، ولأنني أعرف أنني سأحتاجها لاحقاً في كتاباتي ومقالاتي، أو بهدف إرسالها لاحقاً لمن أتوسم حاجته إليها، أو استمتاعه بقراءتها كما أفعل.
قبل قليل، وأنا أبحث عن معلوماتٍ معينةٍ، كنت قد أودعتها تلك الملاحظات، عرضت لي واحدةٌ من هذه الحكايات، فأعدت قراءتها لأعرف لماذا احتفظت بها هي بالذات، ولأستعيد متعتي أو دهشتي الأولى في تلقيها ربما. تقول الحكاية: "إن رجلاً وجد أعرابياً عند الماء، فلاحظ الرجل أن حِملَ البعير كبير، وهو مكون من كيسين متقابلين، حيث يتوسطهما سنام البعير المنهك. وعندما سأل الأعرابي عن محتواه، قال الأعرابي إن الكيس الأول يحتوي على المؤونة، والكيس المقابل له يحتوي تراباً، ليستقيم الوزن في الجهتين، فلا يميل ويختل توازن البعير في أثناء السير.
فقال الرجل: لما لا تستغني عن كيس التراب، وتنصف كيس المؤونة في الجهتين فتكون قد خففت الحمل على البعير بلا أي خسائر؟
ويبدو أن الفكرة قد أعجبت الأعرابي، فبادر إلى تنفيذها فوراً، قبل أن يعود ليسأل صاحبنا: هل أنت شيخ قبيلة أم شيخ دين؟
فقال له بصدق: لا هذا ولا ذاك، بل أنا رجلٌ من عامة الناس.
فردّ الأعرابي حانقاً غاضباً: قبّحك الله، لا هذا ولا ذاك، ثم تشير علي؟ ولم ينتظر تعليق الرجل، بل سارع إلى بعيره المسكين، ليعيد الوضع على ما هو عليه، فيضع المؤونة كلها في كيس علقه على جانب البعير، ويملأ الكيس الآخر بالتراب، قبل أن يعلقه على الجانب الآخر، ويسير مواصلاً صب لعناته على الساعة التي سلّم فيها عقله لرجلٍ من عامة الناس".
واضح أنني احتفظت بهذه الحكاية الظريفة، لأني رأيت فيها مثالاً واضحاً على ما يحدث في الراهن الثقافي والإعلامي العربي، كما تعرضه الوسائل والأدوات والتطبيقات التقليدية والجديدة، فما ينتشر من آراء وأفكار ومقالات ومقولات وكتب ومقابلات لا يعتمد غالباً على قوة المحتوى، بقدر ما يعتمد على من يقول أو يكتب هذا المحتوى وحسب.
ولو استعرضنا نجوم عالم التواصل الاجتماعي، بتطبيقاتها المختلفة، من الذين تتابعهم الملايين من مستخدمي هذه التطبيقات، لاكتشفنا أن قلة قليلةً، بل نادرة منهم، من وصلت إلى شهرتها ونجوميتها اعتماداً على قوة المحتوى الذي تقدّمه لمتابعيها، وإنها بهذا المحتوى استطاعت أن تتحدّى قوانين لعبة النجومية الجديدة المعتمدة على شخصية "النجم" نفسه.
سارع صاحب البعير المسكين في قصتنا إلى تنفيذ مقترح الرجل الغريب، ليس لأنه مقترح ذكي ومنطقي، بل لأنه كان يعتقد أن هذا الرجل صاحب نفوذ، قبلي أو ديني. وبالتالي، من الواجب على الآخرين الإعجاب بكل ما يقوله أو يقترحه. وعندما اكتشف أنه ليس شيخ قبيلة، ولا شيخ دين، بل من عامة الناس، أي أنه يشبهه تقريباً، لم يلتفت إلى وجاهة فكرته المقترحة، على الرغم من أنه طبّقها، وعرف أنها فكرة ناجحة عند التطبيق، بل رفضها بأثر رجعي، وعاد إلى ما اطمأن إليه من منهج في العمل.
وهذا ما نرصده راهناً في أفكار ومقترحات كثيرة، يقولها أناس عاديون فترفض، أو على الأقل تهمل، ولا يلتفت إليها، على الرغم من وجاهتها لحساب أفكار استهلاكيةٍ غبيةٍ، يروّجها النجوم الجدد بشهرتهم الترابية المستعارة، فتنتشر بفضل حماسة متابعيهم من الجمهور الذي يسير كل فردٍ منه يقود حياته مطمئناً بحمولةٍ ثقيلة جدا من الأفكار والآراء وطرق العيش نصفها من التراب.
قبل قليل، وأنا أبحث عن معلوماتٍ معينةٍ، كنت قد أودعتها تلك الملاحظات، عرضت لي واحدةٌ من هذه الحكايات، فأعدت قراءتها لأعرف لماذا احتفظت بها هي بالذات، ولأستعيد متعتي أو دهشتي الأولى في تلقيها ربما. تقول الحكاية: "إن رجلاً وجد أعرابياً عند الماء، فلاحظ الرجل أن حِملَ البعير كبير، وهو مكون من كيسين متقابلين، حيث يتوسطهما سنام البعير المنهك. وعندما سأل الأعرابي عن محتواه، قال الأعرابي إن الكيس الأول يحتوي على المؤونة، والكيس المقابل له يحتوي تراباً، ليستقيم الوزن في الجهتين، فلا يميل ويختل توازن البعير في أثناء السير.
فقال الرجل: لما لا تستغني عن كيس التراب، وتنصف كيس المؤونة في الجهتين فتكون قد خففت الحمل على البعير بلا أي خسائر؟
ويبدو أن الفكرة قد أعجبت الأعرابي، فبادر إلى تنفيذها فوراً، قبل أن يعود ليسأل صاحبنا: هل أنت شيخ قبيلة أم شيخ دين؟
فقال له بصدق: لا هذا ولا ذاك، بل أنا رجلٌ من عامة الناس.
فردّ الأعرابي حانقاً غاضباً: قبّحك الله، لا هذا ولا ذاك، ثم تشير علي؟ ولم ينتظر تعليق الرجل، بل سارع إلى بعيره المسكين، ليعيد الوضع على ما هو عليه، فيضع المؤونة كلها في كيس علقه على جانب البعير، ويملأ الكيس الآخر بالتراب، قبل أن يعلقه على الجانب الآخر، ويسير مواصلاً صب لعناته على الساعة التي سلّم فيها عقله لرجلٍ من عامة الناس".
واضح أنني احتفظت بهذه الحكاية الظريفة، لأني رأيت فيها مثالاً واضحاً على ما يحدث في الراهن الثقافي والإعلامي العربي، كما تعرضه الوسائل والأدوات والتطبيقات التقليدية والجديدة، فما ينتشر من آراء وأفكار ومقالات ومقولات وكتب ومقابلات لا يعتمد غالباً على قوة المحتوى، بقدر ما يعتمد على من يقول أو يكتب هذا المحتوى وحسب.
ولو استعرضنا نجوم عالم التواصل الاجتماعي، بتطبيقاتها المختلفة، من الذين تتابعهم الملايين من مستخدمي هذه التطبيقات، لاكتشفنا أن قلة قليلةً، بل نادرة منهم، من وصلت إلى شهرتها ونجوميتها اعتماداً على قوة المحتوى الذي تقدّمه لمتابعيها، وإنها بهذا المحتوى استطاعت أن تتحدّى قوانين لعبة النجومية الجديدة المعتمدة على شخصية "النجم" نفسه.
سارع صاحب البعير المسكين في قصتنا إلى تنفيذ مقترح الرجل الغريب، ليس لأنه مقترح ذكي ومنطقي، بل لأنه كان يعتقد أن هذا الرجل صاحب نفوذ، قبلي أو ديني. وبالتالي، من الواجب على الآخرين الإعجاب بكل ما يقوله أو يقترحه. وعندما اكتشف أنه ليس شيخ قبيلة، ولا شيخ دين، بل من عامة الناس، أي أنه يشبهه تقريباً، لم يلتفت إلى وجاهة فكرته المقترحة، على الرغم من أنه طبّقها، وعرف أنها فكرة ناجحة عند التطبيق، بل رفضها بأثر رجعي، وعاد إلى ما اطمأن إليه من منهج في العمل.
وهذا ما نرصده راهناً في أفكار ومقترحات كثيرة، يقولها أناس عاديون فترفض، أو على الأقل تهمل، ولا يلتفت إليها، على الرغم من وجاهتها لحساب أفكار استهلاكيةٍ غبيةٍ، يروّجها النجوم الجدد بشهرتهم الترابية المستعارة، فتنتشر بفضل حماسة متابعيهم من الجمهور الذي يسير كل فردٍ منه يقود حياته مطمئناً بحمولةٍ ثقيلة جدا من الأفكار والآراء وطرق العيش نصفها من التراب.