نجاة الصغيرة.. في المكتبة

01 يناير 2015
+ الخط -

بينما كنت أبحث عن طاولة فارغة وسط الزحام في مقهى مكتبة ديوان في مدينة القاهرة، وإذ بسيدة شقراء، يقترب عمرها من عمر أبي تقول لي: (شرايج تقعدين معاي؟). ملامحها لا تحمل مسحة صحراء الخليج، بينما لهجتها تشعل فضولك. جلستُ على الكرسي المقابل لها، تفصلنا تلال من كتب. بدأتْ بالتعرف على ملامحي الأساسية، وأنا أخمّن الأرض التي منها جاءت. لهجتها مزيج من كلام الخليج؛ الكويتي والقطري والبحريني، تتكلم بسلاسة لهجة الأجداد، ليست اللهجة المهجّنة الحديثة. عندما قلت لها إنني من الكويت، بمجرد أنني تلفظت باسم الكويت الصغير الذي لا يتجاوز الحروف الأربعة، مسحت الغبار عن ذاكرتها، أزاحت نظارتها، تنهّدت، وسمحت لذاكرتها أن تفيض:

عشت عمري الأول في ستينيات القرن العشرين في الكويت، درستُ في مدارس السالمية، كان والدي طبيبا في مستشفى الصباح (ثم تستدرك؛ هل لا زال المستشفى قائما؟، وأجيبها بأن نعم). أحببتُ دفء الخليج، ناسه الأولين، لي أصحاب كثر ( وتذكر أسماء العوائل الكويتية المعروفة). لا زالت ذاكرة المدينة تعيش فيّ، الجلسات النسائية الخاصة المقفلة، حيث تجلب ربّة البيت (صينية القدوع)؛ لا تتكلف كثيراً في الضيافة ولا تستعد لها من قبل، تقدّم لنا ما يحويه مطبخها بكل تناقضاته في أوان صغيرة. لا زالت رائحة البخور والعود عالقة في ثيابي. نكهات الطعام الطيّبة على لساني (البرياني والمچبوس المعطّر بالزعفران). على الرغم من تأثر المطبخ الكويتي بالمطبخ الهندي، إلا أنني عندما زرت الهند، وتذوقت البرياني، وجدت أن الكويتي يفوقه لذّة، البهارات في الهند زائدة عن حاجة الوصفة التي اعتدتها في الكويت.


***

الدكتورة هالة عبدالله، درست الأدب الشعبي، لديها رسالة تبحث في الفروقات بين العادات والتقاليد الخليجية والعادات والتقاليد المصرية في الثلاثينيات من القرن المنصرم. تمتلئ بالخليج، بتاريخه، عاداته، ورحلته عبر التاريخ. تستفيض في الحديث عن رحلة الغوص بحثا عن اللؤلؤ، طقوسه، تذكر أصناف اللؤلؤ، وأسماءه، عارفة متمرسة في هذا الشأن.

تتكلم عن حال المرأة التي تبقى وحيدة بعد رحيل زوجها، وكأنها تتحدث عن حالها. تُشرّح الحريم الكويتي؛ العالم النسائي المغلق، بيت الطين الذي لا يقفل بابه، شاي الضحى، ماكينة الخياطة التي تقضي النسوة أمامها نصف العمر، تصف (الدراريع) و(أثواب الزي)، رقصة السامري، وحياء المرأة عندما ترخي طرف الثوب (الزي التقليدي في الكويت) على نصف وجهها. تتغزل بذاكرة الخليج، وكأنها ذاكرة تخصّها.

في لقائي معها، كنت أقف بين ذاكرة أرضي، وذاكرة أرضها. هي تسألني بفضول عن العوائل الكويتية القديمة، عن جلسات النساء المغلقة، عن شجرة البخور في وطني. بينما أسألها عن أم كلثوم، فيلتها الخاصة، حب أحمد رامي لها. أسألها عن نجيب محفوظ، والقاهرة التي شيّدها في أدبه. أسألها عن شادية وفاتن حمامة وذاكرة السينما المصريّة الكلاسيكية التي شكلت جزءا لا يموت في الذاكرة. الدكتورة هالة وأنا، غارقتان في مكتبة، كل واحدة تنهل من ذاكرة الأخرى، بينما النيل يجري، والخليج من بعيد يلوح.

*للملاحظة وأكثر: السيدة هالة كانوا يشبهونها بالممثلة الجميلة: نجاة الصغيرة.


*الكويت