في يوم من أيام العام 1985، أي قبل وقت قصير من رحيله عن الكويت واستقراره في لندن، دعاني الفنان الشهيد ناجي العلي إلى زيارته والتعرّف على تجربة جديدة بدأ يقترب من حافاتها، ويودّ خوضها؛ تلك هي الرسم بمادة النفط، أو بمادة "الزفت" الثقيل المستخرَج من النفط.
ولكن بدلاً من عتمة هذه المادة وسوادها السائل الذي خبرناه ونحن نخطو بحذر على الإسفلت المصهور بحرارة الأصياف العربية اللاهبة، وجدتُ أمامي عدداً من اللوحات مسنداً إلى جدران غرفته؛ فقراء لوحاته الكاريكاتيرية و"حنظلة" باستدارته الشهيرة، وتلك المرأة النحيلة الحانية على طفلها، والسمسار الأكول الذي تكرّش حتى عاد بلا رقبة، وذلك القائد الذي تحوّل إلى فقمة بلهاء، ولكن بالألوان هذه المرة وعلى قماش أبيض لا على ورق الجرائد.
هنالك خطوطٌ بالطبع تحيطُ بهذه الكتل والأجساد وتنحتُ لها مكاناً في الفضاء، ولكن ألوانها تتراوح بين البرتقالي والبنفسجي والأحمر الخفيف وشيء من أخضر شفاف. كل هذا بدا مفاجئاً بالنسبة إليّ، وتبادر إلى ذهني سؤال عاجل: "كل هذه الألوان من تلك الكتلة المعتمة؟ من الزفت؟".
أجاب ناجي وهو يواصل تأمّل لوحاته: "نعم.. أخرجت من هذه الكتلة الرخيصة كل هذه الألوان.. ولكنني ما زلت في طور التجريب..".
شاهدتُ، بين ما شاهدتُ في تلك الزيارة، لوحتين أو ثلاث رسمها بالألوان الزيتية: المرأة الحانية ذاتها مع مفتاح بيت معلّق في رقبتها، أو تلك الغائرة في أعماق اللوحة كما لو أنها أيقونة كنَسية، وذلك الصديق الفلسطيني الذي أقام معه حين وفد إلى الكويت لأول مرة، واتّخذ من ملامحه نموذجاً للّاجئ سيلازم رسومه؛ كساكن مخيّم وأب حنون رغم بؤسه، ومجلود وسجين وفدائي مغدور أحياناً، وقابض على جمر ومتنبئ مبصر وغاضب في غالب الأحيان.
اتّضح لي أن ناجي على أعتاب مرحلة جديدة يضيفها إلى فنه الكاريكاتيري، أو هو في سبيله، إلى صناعة فن لوحة يرسمها بمادة النفط الرخيصة والمعتمة من أجل الفقراء، تماماً على غرار ما فعله المعماري فتحي حسن (1900 - 1989) حين شيّد لفقراء الريف قرية "القرنة" الجديدة على ضفاف النيل (1947)، وأدار ظهره للمعماريين الذين يقيمون حتى اليوم شهرتهم على تشييد عمائر راقصة ولامعة للأثرياء.
منذ البداية، لم يكن ناجي يرغب في صناعة فن من أجل الأثرياء؛ كان فن التسلية أبعد ما يكون عن طرقات تفكيره، ولن يدهشني أن أعرف أن علاقته بمادة "الزفت"، سواء بوجودها المادي أو بوجودها الرمزي، حين يستخدمها المعذّبون في الأرض صفة لحياتهم، ترجع إلى بدايته في مخيم عين الحلوة، حين بدأ يرسم ويلوّن بهذه المادة، كما يقول الفنان كمال بلاّطة (كتاب "الفن الفلسطيني، من 1850 إلى الزمن الراهن"، 2009).
هل كانت تجربة الرسم بالنفط (الصورة من أسرة ناجي العلي وتنشر لأول مرة) عودة إلى البداية أم يقظة على عالم جديد؟ هي كلا الأمرين، إذ تتلازم أكثر من ظاهرة تعبيرية؛ الأولى وجوه وأجساد وثياب الفقراء من جانب، ووجوه وأجساد وثياب الأثرياء من جانب آخر، والثانية مساكن وزوايا مخيّم بائسة مقابل قاعات ومسارح فاخرة، والثالثة، سيادة اللون الأسود وهيمنة اللون الأبيض، كوسيلتين تشكيليتين للمرئيات.
ولا تفوت المشاهد المدقّق في كل هذه الظواهر ملاحظة أن ما يراه ليس سوى المعنى الأول، وأن هنالك معنى آخر يشفّ عنه، إلى جانب الوجوه والزوايا والأمكنة وسيادة اللونين: الموقف الذين يقفه هذا الحشد المرسوم بعناية رسام بارع في تشكيل الأجساد والمساحات والزوايا والسيطرة على فضاء لوحته، موقف التوتر القائم بين مفهومين ورؤيتين وعالمين، موقف سمته الصراع، حتى وإن بدت شخوص هذين العالمين أحياناً هادئة أو متحاورة أو لامبالية وغير مشتبكة، صراع الأضداد؛ الفقير/الغني، فلسطين/ إسرائيل، الفدائي/ السمسار، الشهيد/ المتخم، الأزهار/ الغربان، الناصري/ يهوذا، القومي العربي/ الجحش الطائفي.. وهكذا حتى آخر الأفق، حيث لاتتوقّف الأضداد عن التوالد، ولا تتوقف عن الصراع.
هذه الظواهر التعبيرية الساعية إلى جلاء ما يبدو غامضاً من أحداث وأقوال وخطابات وسياسات، والأهم جلاء الحضور الفلسطيني المقاوم، تستخدم الرمز، أي أنها تنقلنا إلى معنى المعنى بالتعبير الأدبي؛ المعنى الثاني الذي تود أن تضعه أما بصائرنا. ولن يكون هذا المعنى الثاني (الرمز) غامضاً بقدر ما سيكون عميقاً؛ إنه أشبه بغور من المياه الصافية تبدو حصى قاعه قريبة من المتناول، في حين أنه يبعد عن متناولنا بأميال.
ولكن ما الذي يسعى إليه رمز من هذا النوع؟ ما الذي يريد الرسام توصيله حين يكشف عن معنى آخر خفي لسلوك اللاجئ الذي يسقط أقنعة الأبقار المقدسة، أو خطابات وإشارات ذلك القائد/ الفقمة؟
بالطبع، لا مكان للسؤال عمّا يسعى إليه حين يكشف ببساطة عن بلاهة المحتل الذي يجهل أن الأرض تتحدّث العربية، وأن العجوز الفلسطيني يزرع ليأكل من يأتي بعده، ولكن السؤال يظل لماذا هذا الولع بنقد أخلاقي لا تأخذه لومة لائم للقادة وسياساتهم ومناهج تفكيرهم، نقد يُسقط عنهم هيبتهم المصطنعة، ويصورهم كما هم على حقيقتهم؛ مجرد أشباه رجال تقارب أشكالهم هيئات حيوانية، فهم تارة أشبه بالعظّاءات الزاحفة، وتارة أشبه بكائنات تحولت إلى أعجاز وبطون فقدت أطرافها؟
الجواب ببساطة، لأن فناً من أجل الفقراء يعني بالدرجة الأولى تحرير مخيلتهم من كل أشكال السطوة والهيمنة والأكاذيب، سطوة السمسار المتنكر بثياب قائد، وهيلمان المتعيش المتنكر بإيهاب شاعر، والخوف من العباءات الخاوية، وليس هناك من فن قادر على تحرير الإنسان من الخوف والخداع والأضاليل يتفوّق على فن الضحك، أو الكوميديا بالتعبير الشائع، وخاصة حين يتحوّل هذا الفن على يد فنان، لا منتحل فن، إلى أداة مثقّفة لها من ثقافة الرمح صلابته ودقته في الإصابة.
أعتقد أن المرحلة التي أطل عليها ناجي، حين عاد إلى تجربة الرسم بالزفت، هي المرحلة الطبيعية التي فكّر فيها ليؤسّس لأثر أبقى من مجرد السخرية من وحوش هذا العالم المحكوم عليها بالزوال، لأثر يمكن أن نسمّيه اكتشاف الجمال في هذا العالم، وإعادة صياغة العلاقة بين جماليات هذا العالم وفقرائه، أو من أطلق عليهم فرانز فانون تسمية "المعذبون في الأرض"، أي اكتشاف حقّهم في الجميل والرائع الذي استحوذ عليه الأثرياء باستحواذهم على فنانين وشعراء ومعماريين.. لم يرسموا إلا لهم، ولم ينشدوا إلا لهم، ولم يبنوا عمائر تتلّوى وترقص على إيقاع مباذلهم إلا لهم.