ميشال خليفي كسر محرّمات الغوص في المجتمع الفلسطيني

28 يوليو 2015
فيلم عرس الجليل، 1987
+ الخط -
يُشكّل "عرس الجليل" (1987)، للمخرج الفلسطيني ميشال خليفي، لحظة تحوّل في مسار السينما الفلسطينية. فبارتكازه على موضوع إنسانيّ عادي بحت (مختار بلدة فلسطينية يريد الاحتفال بزواج ابنه، فيطلب من الحاكم العسكريّ الإسرائيلي "تسهيل" اللحظة هذه، وعدم منع المدعوين من الوصول إلى مكان الاحتفال)، يتوغّل السينمائيّ المقيم في بلجيكا منذ العام 1970 في ثنايا المجتمع الفلسطيني، وفي بناه الاجتماعية والتربوية والسلوكية، وفي علاقته بالمحتلّ الإسرائيلي. هذا كلّه مُغلّف بتقنية سينمائية تريد التحرّر من سطوة التبسيط والتحقيقات التسجيلية وارتباك اللغة البصرية، بهدف تحويل الصورة إلى بناء متكامل من الأدوات السينمائية، تصويراً وتوليفاً ومعالجةً.

مسارات أولى
رغم تعرّض "عرس الجليل" إلى حملة عنيفة يقودها عربٌ مناهضون لـ"التطبيع" (علماً أن الفيلم لا يدعو إلى التطبيع، بقدر ما يُصوّر حقائق العلاقات المرتبكة والملتبسة بين أبناء الأرض أولاً، وبينهم وبين الغزاة الإسرائيليين)، ومع أن نقّاداً وسينمائيين عديدين يقولون بخلل تقني ـ فني ـ درامي (ربما يُصيبون بقولهم هذا، لكن الفيلم أهمّ من أن يقع ضحية خلل بسيط هنا أو هناك، لبعض جمالياته الدرامية والإنسانية والواقعية على الأقلّ)؛ إلاّ أنّ الروائيّ الطويل الأول هذا لخليفي يبقى فعلاً إبداعياً يُساهم في نقل النتاجات البصرية الفلسطينية من حالة تخبّط ما في الشكل والمضمون، إلى حالة تماسك بينهما.
يأتي "عرس الجليل" بعد وثائقيين اثنين يُحقّقهما ميشال خليفي في النصف الأول من ثمانينيات القرن المنصرم: "الذاكرة الخصبة" (1980)، و"معلول تحتفل بدمارها" (1985). السينمائيّ المولود في الناصرة، يُقيم فيها حتى العام 1970، منتقلاً حينها إلى بروكسل، ومنتسباً هناك إلى "المعهد الوطني العالي لفنون المشهد وتقنيات البثّ"، المعروف باسم "معهد إنساس" (أحد أبرز المعاهد الأوروبية والغربية في تدريس السينما)، متخرّجاً منه في العام 1977 بشهادة ديبلوم في الإخراج المسرحي وفي شؤون الإذاعة والتلفزيون: "كنتُ أهوى المسرح، لكني أرفض العمل فيه، لأني غير متعلّم. التجربة التي قمتُ بها لم تُقنعني. لهذا أدركتُ ضرورة العلم"، يقول خليفي في حوار صحافي مع الناقد الأردنيّ عدنان مدانات، منشور في كتابه "السينما التسجيلية ـ الدراما والشعر". يُضيف خليفي: "جئتُ إلى السينما متأخّراً من حيث العمر. في الـ21 من عمري علمتُ أنه يُمكن دراسة السينما. هذا خَلَق مسافة بيني وبين السينما. بمعنى ما، سمح لي بالنظر إلى السينما بصورة كلية، ومحاولة فهم أبعادها ودورها التاريخي... لم تكن المسألة قضية أسلوبية، بمعنى صنع فيلم على غرار الواقعية الجديدة أو غيرها. لا يُمكن أن أتحدّث عن تأثير سينما محدّدة، بل عن سينما عالمية. لهذا، يجب الخوض في التجارب الإنسانية".

تجارب إنسانية فردية
لن يكون تعبير "التجربة الإنسانية" شعاراً، بل اشتغالاً واقعياً يُفضي بخليفي إلى التنقيب في أحوال أناس/ أفراد وحكاياتهم الشفهية، المتضمّنة كَمّاً من الاختبارات الإنسانية، التي تُصبح أشبه بمرايا بيئات وجماعات وتاريخ وذاكرة. أولاً، هناك "الذاكرة الخصبة". اختيار امرأتين جزءٌ من عملية البحث في أحوال بيئة فلسطينية. الكاتبة سحر خليفة وعمّة المخرج فرح حاطوم تنسجان حكاياتهما على إيقاع "تلصّص" خَفِر للكاميرا على بعض الخفايا والمرويّ معاً. التجربة الفردية تتكامل مع الأخرى، فتُشكّلان إطلالة على إيقاع حياة، وعلى أنمط تفكير، وعلى أشكال عيش. ثانياً، هناك "معلول تحتفل بدمارها". القرية تابعة لمحافظة الناصرة، تتعرّض للدمار في 15 يوليو/ تموز 1948، بحسب المؤرّخ الإسرائيلي بني موريس، بينما يقول البعض إن تهجير أهلها منها وتسويتها بالأرض كلّياً تمّ قبل ذلك بوقت قصير. والفيلم رحلة بصرية مع من بقي حيّاً من سكّانها ومن المتحدّرين منهم، القادمين إليها سنوياً في ذكرى تهديمها.
لا يكترث خليفي بالشكل السينمائيّ. الوثائقي فنّ سينمائيّ يتحوّل بين يديه إلى مرايا تستند إلى الصورة في تفكيك بُنى اجتماعية فلسطينية. الروائيّ أيضاً. "نشيد الحجر" (1990)، يختار نماذج إنسانية فلسطينية متفرّقة، كي يرسم لوحة عن واقع اجتماعي متعلّق بأحوال الناس العاديين. يختار نماذج مختلفة، بل متناقضة أحياناً، كي يروي شيئاً من الحكاية الفلسطينية، سواء عبر الغوص مجدّداً في متاهاتها، أو من خلال قراءة هادئة لارتباط البيئة المحلية بالاحتلال، وتأثيراته السلبية الكثيرة. بعد 4 أعوام، يُنجز "حكايات الجواهر الثلاث" (1994)، وهو روائي طويل ثالث له، لا يرتقي إلى المستوى الإبداعي وأسئلة السينما والحياة، على غرار فيلميه الروائيين الأولين. يذهب خليفي إلى قطاع غزّة، ويتابع تفاصيل يومية لأناس مهمومين بألف سؤال والتباس وقلق. بينما الروائيّ الرابع "زنديق" (2009)، وإن يستمرّ في الخطّ الإنساني العام للنتاج السينمائي الخاصّ بصانعه، يتهاوى في مقاربته المرتبكة قصّة سينمائيّ يعود إلى بلدته المحتلّة بعد سنين من التهجير والمنافي، فيصطدم بخرابها الداخلي.

تكسير محرّمات
من أعماله الوثائقية الأخرى، فيلمان اثنان: "الزواج المختلط في الأراضي المقدّسة" (1996)، و"الطريق 181: شذرات من رحلة في فلسطين ـ إسرائيل" (2003). عنوانان يختزلان مضموني الفيلمين، ويُقدّمان فصولاً من تاريخ فلسطين واجتماعها. فالأول يدخل في صميم أحد المحرّمات التقليدية في الاجتماع الإنساني الفلسطيني ـ الإسرائيلي، متمثّلاً بالزواج بين أبناء الديانات السماوية الثلاث، فيسرد بعض الحكايات المتعلّقة بأناس يكسرون شيئاً من المحرّم هذا، ويروون انفعالاً أو تفكيراً أو تأمّلاً في الموضوع نفسه، ويطرحون أسئلة مستوحاة منه أو منصبّة فيه.
الثاني ـ المُنجز بالتعاون مع المخرج الإسرائيلي إيال سيفان ـ يقوم برحلة في الجغرافيا التاريخية لفلسطين، متّخذاً من الرقم 181 درباً له، علماً أنه رقم خاصٌّ بقرار صادر عن الأمم المتحدّة في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، يقضي بتقسيم الأرض إلى 3 كيانات: الأول عربي خاصّ بالفلسطينيين، والثاني عبريّ لدولة يهودية، والثالث مستقلّ للقدس. الرحلة المقترحة في الفيلم تبدأ في الجغرافيا، لكنها تنتشر في أشكال الحياة اليومية على "ضفاف" الكيانات هذه، وتذهب إلى الناس كي تلتقط منهم مرويات غير مكتوبة عن عيش وذاكرات مثقلة بالعنف والخراب والتشرذم.
في أفلامه كلّها، وعلى الرغم من التفاوت الواضح في آليات اشتغالاتها البصرية والجمالية والفنية، يسعى خليفي إلى تحصين الذاكرة من الغرق في النسيان، وإلى النبش في الراهن عن المبطّن والمخفي، وإلى كسر محرّمات البحث في أهوال الثقافات التقليدية المتزمّتة والمنغلقة.
(كاتب لبناني)
المساهمون