سجلت الأحداث السياسية التي شهدتها برلين خلال الأشهر الأربعة الماضية نقطة تحول في تاريخ جمهورية ألمانيا الاتحادية، مع دخول اليمين الشعبوي، للمرة الأولى، إلى البوندستاغ، وتصدع الأحزاب التقليدية والفشل في تشكيل حكومة ائتلافية مستقرة، بعد أن كانت عملية تكوين ائتلاف سهلة في ألمانيا، مع تنعمها بحالة استقرار اقتصادي وسط التخبط الأوروبي. إلا أن فشل مفاوضات "جامايكا"، حتم على المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، لإنقاذ ولايتها الرابعة بعد أن حصد حزبها أغلبية ضئيلة في البرلمان، الاتفاق مجدداً مع الحزب الاشتراكي على ائتلاف كبير "غروكو" متجدد، الأمر الذي كلفها دفع أثمان باهظة للحليف التقليدي، بتنازلها عن وزارات سيادية، ما تسبب بانتقادات واستياء لدى محازبيها، وطرح تساؤلات عما إذا بدأ عهد ميركل يرسم نهايته.
لم تنفِ المستشارة، في مقابلة مع القناة الثانية في التلفزيون الالماني (زد دي إف) الأحد الماضي، اضطرارها لإعادة التموضع. ووصفت التنازل عن وزارة المالية بالأمر "المؤلم"، قبل أن تؤكد أنه "لا يمكن لوزير المالية أن يفعل ما يريد. لدينا ميزانية متوازنة ولدينا سياسة مشتركة حول أوروبا". ويبدي مقربون منها ارتياحهم لتولي عمدة مدينة هامبورغ، أولف شولتز، الوزارة، كما بات معروفاً، خصوصاً أنه كان قد شارك بفعالية في المفاوضات، وهو مطلع على ملفات الوزارة ومقتنع بضرورة الحفاظ على موازنة مريحة. ووعدت ميركل أن يكون لجيل الشباب دور إذا ما تشكلت الحكومة الائتلافية، وهو التزام من قبلها للتجديد بشكل مختلف، وعبر حزبيين ذوي كفاءة وأصحاب خبرة، على أن تعلن أسماء الوزراء عند انعقاد المؤتمر الخاص لحزب الاتحاد المسيحي المقرر في 26 فبراير/شباط الحالي.
وفي السياق أيضاً، رد رئيس ديوان المستشارية، بيتر ألتماير، على المنتقدين للاتفاق داخل صفوف الحزب. وقال وزير المالية بالإنابة، لصحيفة "فيلت أم زونتاغ"، إنه من المحزن التوقف عند أهمية الوزارات الهامة لكونها جزءاً من هوية الاتحاد. وطمأن على السياسة المالية السليمة للدولة بعد الإنجازات التي حققها وزير المالية السابق، فولفغانغ شويبله. وقال "أدرجت في الاتفاق جميع النسخ الضرورية حتى نتمكن من متابعة سياسة شويبله الذي أصبح رئيساً للبوندستاغ. وكل يورو ينفق، وكل قرار يتخذ في بروكسل يجب أن يقرر في الحكومة الاتحادية. وهكذا يمكن للاتحاد المسيحي أن يضمن احترام مبادئه"، مؤكداً على أهمية وزارة الاقتصاد التي من المرجح أن يتولاها. وفي حين لفت إلى أن حزبه كان يشكو لعقود من عدم نيله وزارة الشؤون الاقتصادية، فقد شدد على أنه يملك وزارات مهمة أخرى ورئيسية لها دور في ازدهار ألمانيا وحماية أمنها، وهي الدفاع والتعليم والطاقة والأبحاث والزراعة والصحة، بالإضافة إلى عودة وزارة الدولة لشؤون الاندماج إلى المستشارية.
وأمام هذا التخبط يرى المراقبون أنه على الرغم من بعض "الضعف" في الحكم الذي تعاني منه ميركل، فإن زعيمة "الاتحاد المسيحي" هي الوحيدة القادرة في هذا الوضع على التوصل إلى حكومة مستقرة، فيما يبقى المطلوب من "المسيحي" التصرف بسرعة لتحديد المسار بعد امتعاض قاعدته وتزايد الأصوات المعترضة التي تدعوها للتفكير بالرحيل، والتي كانت وصفت الأداء التفاوضي مع الحزب الاشتراكي بالهش وشابه الكثير من الأخطاء وكبد الحزب خسائر جسيمة. إلى ذلك، يرى باحثون في العلوم السياسية في ألمانيا أن حال التململ والتذمر داخل الحزبين التقليديين، "الاتحاد المسيحي" و"الاشتراكي"، بينت أنّ لا أحد راضياً عن ائتلاف حكومي متجدد بينهما. إذ إن همّ الطرفين هو التسابق على الحصص وتوزيع الأدوار وحفظ ولاية رابعة لميركل على رأس المستشارية، بحيث بات المطلوب فقط تسوية الأمور القديمة، رغم التعهد بضخ المليارات للاستثمار في البنى التحتية وللحد من تنامي موجة غلاء إيجارات المنازل والنقص العددي في مراكز الشرطة، إلى الحاجة للتعليم والإسكان والبنية التحتية والضرورة الملحة لدور الحضانة وسرعة التحول إلى النظام الرقمي. وجاء هذا الأمر في ظل الخيارات المحدودة للطرفين، وتفاديهما إعادة الانتخابات، مع إغراءات شهوة السلطة، وحيث لا بديل واقعياً عن ائتلاف كبير متجدد. ووصل الأمر ببعضهم للقول إن الولاية الرابعة لميركل ستكون بمثابة مرحلة انتقالية، أكثر منها ولاية لتحقيق الإنجازات في ألمانيا وأوروبا، مع تصاعد الأصوات المعارضة لسياسة الائتلاف الكبير وتشبيهها الاتفاق بـ"الرعد المسرحي" مع غياب الجهد الإبداعي بين أطرافه وتخبطهم في الملفات الأساسية، منها السياسة الصحية والعمل.
من جهة ثانية، رحب مسؤولون في حزب ميركل بالضمانات التي قدمتها لتجديد الحزب، ما يساهم بتخطي، ولو نسبياً، الإحباط الذي يسود بعض أوساطه، على خلفية التوزيع المجحف للوزارات، ما تسبب بردة فعل هائلة وصدمة لدى أعضاء وجمهور الحزب. واعتبرت ميركل، في المقابلة المتلفزة، أن "فشل مفاوضات تشكيل ائتلاف غروكو بسبب الحقائب الوزارية سيكون تصرفاً غير مسؤول"، مضيفة "أنا أنتمي إلى الناس الذين يحفظون الوعود". وتابعت "سأبقى في منصب المستشار لمدة أربع سنوات كاملة، وهذا الأمر ينسحب أيضاً على زعامة الحزب، لأنه بالنسبة لي فإن هذين المكتبين ينتميان إلى جهة تعمل على تشكيل حكومة مستقرة". وأشارت إلى أن توزيع الحقائب سيبقى على حاله رغم إعلان زعيم "الاشتراكي"، مارتن شولتز، انسحابه من تولي منصب وزاري لأسباب حزبية داخلية.
ويعتبر الباحثون أن كلام ميركل يحمل المهادنة والتحدي في آن، مع معرفتها أن مزاج الأصوات المنتقدة لا تشكل خطراً عليها ويمكن ضبطها، إنما لا يمكن تجاهلها أيضاً، رغم اصطفاف الوزراء والمسؤولين الحزبيين المؤثرين خلفها ولا تزال تتمتع بدعمهم ويشاطرونها الرأي بأن برلين بحاجة إلى حل توفيقي وحكومة مستقرة. كما أن أوروبا والعالم بحاجة إلى ألمانيا قابلة للحياة، وفشل المفاوضات كان سيرتب عواقب وخيمة أكثر من تخليها عن وزارة مهمة. في المحصلة، تؤكد المستشارة مرة جديدة أنها تجيد بمهارة اللعب على حافة الهاوية، وهي التي تعلم متى تحدد خروجها من السياسة وعلى طريقتها، وليس بضغط من منتقديها. وكانت قد عبرت أخيراً عن هذا الأمر، بإعرابها عن اقتناعها بأنها لن تفوت فرصة المغادرة في الوقت المناسب. لكن يبقى الحديث عن إيجاد شخصية لخلافتها وتجديد الحزب، لتفادي المفاجآت في الانتخابات العامة في عام 2021.