مياهٌ و"فلاتر"

19 نوفمبر 2014

طفل فلسطيني أمام منزل عائلته المدمر في غزة(9 أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

حينما قررت تركيب "فلتر" مياه منزلي، سخر أصحابي مني، لسببين: أنني أهتم بقضايا سخيفة، وأن تركيب "الفلتر" غير ممكن، بسبب درجة ملوحة المياه العالية.

لم آبه لمحاولات التثبيط تلك، فتواتر التقارير الصحافية والحقوقية، شبه اليومية، عن تلوّث مياه الشرب في قطاع غزة، منحني دافعاً كبيراً نحو المضي في المشروع، وبدأت البحث في شبكة الإنترنت، وحصلت على معلومات وافية حول "الفلاتر"، وأنواعها، وعن نظام "التناضح العكسي"، وشروط الفلتر الصحي.. إلخ.

ومن ثمّ، توجهت إلى صديقي، أبو نبيل، تاجر الأدوات الكهربائية، للبدء في التنفيذ. لكن، هيهات، فقد تبين لي، بالفعل، أن تركيب "فلتر" في غزة ضرب من المُحال، نظراً لارتفاع مستوى ملوحة المياه.

ولكنْ، مهلاً، "ما وظيفة الفلتر؟ أليست تحلية المياه؟"، سألت صديقي، وأنا أحاول عبثاً إقناعه بإمكانية تركيبه. لكنه صدمني مجدداً بإجابته: يا عزيزي، الفلتر ينقّي المياه العذبة من الملوثات، ولا يحلّي مياه البحر المالحة، فمياه الشرب عندنا، كما تعلم، تأتي من البحر مباشرة (..)، التحلية تحتاج إلى محطة، وليس إلى فتلر".

"أي والله"، هذا ما حصل معي، (رضينا بالبين، والبين مش راضي فينا)، كما يقول مثل فلسطيني، فعلى الرغم من مشكلات الفلتر المعروفة، كإهداره كميات كبيرة من المياه، وحاجته إلى قطع غيار "مكلفة"، كل عدة أشهر، إلا أن درجة ملوحة مياه قطاع غزة لا تحتملها أعتى أنواع الفلاتر العالمية.

يبقى حل أخير، شراء المياه المعدنية؛ وهو صعب أيضاً، لسببين، الأول تكلفته العالية، وربما لا تقدر عليها سوى العائلات الأرستقراطية، (3 لترات: 1.05 دولار)، ومعنى هذا أن الأسرة المتوسطة ستحتاج إلى نحو (200-300 دولار) شهرياً لشراء مياه الشرب. والسبب الثاني عدم وجود ضمانات بأن المياه المعدنية صحية، فكثيراً ما قرأنا عن مشكلات هذه المياه، والشكوك حول مدى تطابقها مع المعايير الصحية العالمية.

وربما تزيد المشكلة في غزة، كونها "مستوردة" من بلاد بعيدة، وتظل شهوراً مخزّنة في المعابر الإسرائيلية، في ظروف لا يعلمها إلا الله.

الطريف في ما سبق أن أزمة المياه في غزة "عادلة"، فلا تقسو على الفقير فقط، بل تطال بظلمها الجميع، فالكل سيظل تحت رحمة مياه محطات التحلية التجارية التي يؤكد "خبراء" أنها "وصفة للسرطان وهشاشة العظام وأمراض أخرى"، حسب تحقيق صحافي نشرته صحيفة "الحياة الجديدة"، الأسبوع الماضي، بدعم من الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان". وجاء في التحقيق أن أكثر من نصف محطات تحلية المياه غير مرخّصة، ولا تخضع للرقابة، وأن أصحابها يُقرون بعدم التزامهم بالمعايير الدولية لعملية التحلية. وكشف التحقيق كذلك أن السبب الأول لأزمة المياه حفر إسرائيل أكثر من 26 بئراً عميقة على طول الحدود الشرقية مع قطاع غزة، وبناؤها السدود على الأودية المؤدية إلى القطاع.

وقد سبق لمنظمة الأمم المتحدة أن حذرت، في تقرير في أغسطس/آب 2012، من أن غزة ستواجه كارثة محققة في المجالات كافة في عام 2020، وخصوصاً في مجال المياه، إذا لم يتم إنهاء الاحتلال والحصار، والتدخل العاجل لإنقاذ قطاعات الخدمات المختلفة، من التدهور والانهيار المتوقع.

وقالت إن القطاع سيواجه أزمة عميقة في مجال المياه، مؤكدة أنه، في العام 2016، لن يكون هناك أي مياه صالحة للشرب، وأن 75% من مياه الصرف الصحي تضخ إلى البحر والمياه الجوفية، ما يتسبب بكارثة حقيقية.

الحل، حسب الخبراء، في إنشاء محطة تحلية كبيرة لمياه البحر، وهو مشروعٌ لا يتحدث عنه أحد، فالحلم بكوب ماء نظيف يشربه أطفال غزة بات من متطلبات "الرفاهية"، في بلد يُمنع فيه المشردون بأوامر من المجتمع الدولي، من شراء كيس إسمنت، لكي يغلقوا ثقوباً يتسلل منها صقيع الشتاء إلى منازلهم.

EE1D3290-7345-4F9B-AA93-6D99CB8315DD
ياسر البنا

كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في قطاع غزة