موت الحكيم السوري
أكثر الألقاب في سورية تداولاً وقربًا من النفس، عندما يخاطبون الطبيب/ة أن ينادوه/ا: يا حكيم/ة. وكان اللقب يلقى صدى طيبًا في نفسي، عندما أسمعه بصوت مرضاي المتألمين. يشمل هذا اللقب كل المشتغلين في المجال الطبي، الأطباء الذين يدرّسون في الجامعات يخاطبهم المرضى أيضًا بلقب الحكيم، ويخاطبهم طلابهم بلقب أستاذ، وفي هذا أيضًا قدر كبير من التبجيل والاحترام والعرفان. والعرفان كان تاريخيًّا إحدى القيم الناظمة للعلاقة بين مريد المعرفة ومعلّمه، والمعلّم أو الأستاذ أيضًا لم ينل شرف هذا اللقب، إلا بعد أن امتلك أدواته ورصد شطرًا كبيرًا من عمره، إن لم يكن كل عمره من أجل هذا الشرف. وقد كان في سورية، على الرغم من كل ما عاناه الشعب على مدى العقود الماضية، شريحة من الأطباء "الحكماء". وقد بذل الأساتذة القديرون جهودًا كبيرة، وتعبوا على أنفسهم في ظل تردّي القطاع التعليمي مع الوقت، وانحداره تحت سطوة الفساد المتغلغل في المؤسسات التعليمية كغيرها. وأكبر دليل على الجهود الإنسانية الفردية المبذولة هو تميّز الطبيب السوري، ليس فقط ضمن البلاد بل خارجها، والتميّز الأصعب كان داخل البلاد، لأن الظروف المشجعّة على إظهار التميز ليست موضوعية، ولا يأخذ أطباء كثيرون فرصتهم بسهولة، بسبب عوامل كثيرة، ليس مجال نقاشها هنا، لكنها على علاقة مباشرة بالدعاية والنفوذ والمحسوبيات على حساب الكفاءة.
يموت أطباؤنا في سورية، والمجتمع بأمس الحاجة إليهم. يموتون ويتركون فراغاً أسود في نفوس ذويهم، وخوفاً شرساً في وجدان العامة
أما في الدول المتطورة، الدول الحديثة القائمة على المؤسسات والقانون، فإن إمكانية امتلاك فرص التعبير عن الذات والإبداع متاحة للجميع، وكل إنسان يُقدّر مجهوده وإبداعه وترعاه الدولة وتتسابق عليه الشركات والمؤسسات. وقد اكتسب الطبيب السوري سمعة طيبة في معظم البلدان التي هاجر إليها وعمل فيها. أمّا في سورية فأطباء كثيرون يعملون في مشافي الدولة أو القطاع العام، وأجورهم الشهرية تحسب بموجب سلّم الرواتب والأجور المرتبط بقانون العاملين في الدولة، باعتبار كل من يعمل في القطاع العام اسمه عامل. وللعاملين مراتب وظيفية أو درجات، بحسب سنوات الدراسة أو الشهادة التي كانوا يحملونها وقت التعيين. وهناك إضافات على أساس الراتب لها علاقة بطبيعة المهنة أو العمل، نسبة مئوية قليلة من الراتب تكاد لا تُذكر تضاف إلى الأجر الشهري. وفي النهاية، يكاد هذا الأجر لا يكفي لتسديد فواتير الشخص وخدماته الحياتية. صحيحٌ أنه يحقّ للأطباء أن يفتحوا عياداتٍ بالإضافة إلى عملهم الوظيفي، لكن ليس كل الأطباء قادرين على تأسيس عيادات وامتلاك الشهرة الكافية التي تدرّ عليهم دخلاً إضافيًّا، من المؤكّد أنه يفوق الراتب الحكومي بأضعاف. يمكن القول إن وضع الطبيب (الحكيم) في سورية لم يكن لائقًا بمكانته العلمية ووظيفته الاجتماعية التي أثبتت جائحة كوفيد ـ 19 أنها من أهم الوظائف في حياة الشعوب. والبراهين دامغة أمامنا، حيث أظهرت الدول التي استثمرت في مجالات أخرى على حساب المجال الصحي، أن أجهزتها الصحية مقصّرة، وكادت تنهار أمام هذا الوحش الغامض.
أطباء كثيرون في سورية يعملون في مشافي الدولة أو القطاع العام، وأجورهم الشهرية تحسب بموجب سلّم الرواتب والأجور المرتبط بقانون العاملين في الدولة
يمكن القول إن الأطباء في سورية اليوم صاروا "عزيزين"، بمعنى عددهم قليل، فالحرب المدمرة ساهمت، إلى حدّ كبير، في خسران هذا القطاع الحيوي، منهم من مات تحت القصف، ومنهم من مات في المعتقلات، ومنهم من مات في صفوف الجيش، ومنهم من شرّدته الحرب، ومنهم من هاجر، ومن بقي يصارع ويتحدّى مرارة العيش في بلدٍ لم يعد لديه ما يمنحه لأبنائه. وبين أناسٍ منهكين، يزداد عيشهم ضيقًا وغدهم انغلاقًا، إلى أن وصل الوحش الغامض، كوفيد 19، إلى سورية المنهكة المدمرة الممزقة المنهارة اقتصاديًا، التي يعاني ساكنوها في كل المناطق من الفقر والحاجة لأبسط مقومات الحياة، فما كان من الأطباء إلاّ أن يتصدّوا له بكل بسالة وشهامة ونبل، واجهوا الوباء الشرس من دون الحدّ الأدنى من مستلزمات الوقاية والسلامة المهنية. ومعروف أن احتمال العدوى يزداد كثيرًا بازدياد عدد الحالات التي يتعامل معها الطبيب بتعرّضه لكمية أكبر من الفيروسات.
ليت كل الجيوش بيضاء كسريرتة الأطباء وقلوبهم العامرة بمحبة الناس والشهامة والعزيمة والشجاعة والرحمة
لقّب الناس هؤلاء الجنود البواسل بـ "الجيش الأبيض". وليت كل الجيوش بيضاء كسريرتهم وقلوبهم العامرة بمحبة الناس والشهامة والعزيمة والشجاعة والرحمة. أطباء يشكلّون أهمّ الخامات البشرية في الوقت الحالي، وفي كل وقت. تُركوا في المعركة وحيدين، من دون أن توفّر لهم السلطات المعنية وسائل الحماية، لم يتهرّبوا من واجبهم الإنساني، وها هم يتساقطون بالعشرات أمام جيشٍ جبار، لا يمكن قصفه بالبراميل أو بالصواريخ أو بغير أسلحةٍ قد تكلف القذيفة الواحدة منها، المقطوع ثمنها من لقمة الشعب، ما يُصرف على إعداد عشرة أطباء وتوفير الحماية لهم من أجل حماية المجتمع والحفاظ على سلامته.
أطباء سورية يُخطفون من قيود الأحياء لتُدوّن أسماؤهم في سجلات الموتى، فتُضاف إلى عدد السوريين الأموات أعدادٌ أخرى، كي لا يتعطّل عدّاد الموت، وكي لا يكفّ الموت عن حصد الأرواح البريئة أمام أعين العالم. هذا العالم الذي استثمر بشعبنا وبلدنا ومواردنا، فنهب ودمّر وما زال، بينما يرفع شعارات خلّبية تَعِد بالعدالة والأمان والاستقرار، ورد المظالم، ومحاسبة المرتكبين، وإعادة إعمار ما دمّرته الحرب وعودة آمنة للمهجّرين، وإخلاء سبيل المعتقلين، والكشف عن مصير المغيّبين، شعارات فوق أرض خراب تضخ إعلاميًّا بمنتهى الضلالة والتضليل. في موازاتها حربٌ لا تكفّ عن الاشتعال، وجيوش تستبيح الأرض وتهجّر سكانها، وتغربل الشعب السوري لتعيد توطينه وتوزيعه وفق أجنداتها، بينما الأطباء يموتون برخص، حرّاس الصحة والحياة، الحكماء الذين يضعون معايير كيمياء العافية والمرض، الحياة والموت، في وقتٍ تبدو حتى جهودهم مثل موتهم رخيصة، ولا قيمة لها، بل معروضة للاستنزاف أمام توفر كل سبل التفشّي السريع المميت، فليس هناك خطط مدروسة لاحتواء المرض، وليس هناك قدرة على توفير مستلزمات سدّ الرمق، وليس أمام المواطن من سبيلٍ لأن يحصّن حياته، لأن وقته وجهده ودخله مرصودة كلها لخوض معارك الازدحام والانتظار والتصاق الأجساد وتراكبها، كما "شوالات" السلع من أجل الحصول على ربطة الخبز وفق بطاقة خبيثة، وكيلو سكر وكيلو رز وغيرها وفق تلك البطاقة اللعينة. تباعد اجتماعي؟ العناية بالنظافة والتعقيم؟ الاهتمام بالصحة وتعزيز المناعة بالغذاء الصحي؟ أي جنون هذا؟ كيف نطالب الناس بأن يتباعدوا؟ ألا يكفي ما باعدتهم الحرب بعضهم عن بعض؟ ها هي الجائحة ترميهم متلاصقين ملتحمين يشيلون عبء الوباء مع بعضهم بعضا، ولسان حالهم يقول من قاع اليأس: أكتر من قرد ما مسخه الله، مع الاعتذار لشركائنا في المنظومة الحيوية عشيرة القرود.
يموت الأطباء وتموت الحكمة، وموت الحكمة يسعد الطغيان، فأية حياة موحشة يعيشها السوريون؟
كل أنواع الأمن في جاهزية كاملة في سورية إلا الأمن المهني. لذلك يموت أطباؤنا، والمجتمع بأمس الحاجة إليهم. يموتون ويتركون فراغًا أسود في نفوس ذويهم، وخوفًا شرسًا في وجدان العامة. يموت الأطباء وتموت الحكمة، وموت الحكمة يسعد الطغيان، فأية حياة موحشة يعيشها السوريون؟ وهناك من يلقي التهمة والعلّة على قانون قيصر والحصار المفروض منذ سنوات على البلاد، لكن الصين في ذروة الوباء في العالم كانت تمدّ الدول المصابة بكل الوسائل المطلوبة، فهل تعجز الصين عن تأمين دولةٍ حليفةٍ لم يبقَ فيها من شعبها ما يعادل سكان بكين؟ هل تعجز روسيا الداعمة للحكومة والنظام عن توفير ما يحقق الحد الأدنى من وسائل الحماية للطاقم الطبي وتجهيز مشافٍ تستطيع النهوض بالمسؤولية؟ وأين تركيا التي يهلّل جزء كبير من جمهورها السوري، ويقدم الولاء لحكومتها، من معاناة الشعب الواقع تحت حمايتها؟ لقد وصل السوريون، في كل المناطق، لا فرق بين حكم نظام ومعارضة، إلى مرحلة اليأس الكامل من الحياة ومن حكامهم. الدليل الوحيد الباقي ليشير إلى أنهم لم يموتوا بعد أنهم يبكون أبناءهم، فالبكاء علامة حياة، وما يُبكي أكثر أنه لم يبقَ من علامات الحياة لهذا الشعب غير البكاء.