موارنة لبنان: إلياذة مشرقية

08 نوفمبر 2014

لبنانيون يتظاهرون ضدّ التمديد لمجلس النواب (5 نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
تحفل قصص موارنة لبنان ب "بطولات" كثيرة. "بطولات" تروي عنها الأديرة المنتشرة في جبال لبنان وسهوله. لم ينقطع سيل "الأمجاد"، منذ أن تمظهر الموارنة مجتمعاً، في وطن الأرز في القرون الميلادية الأولى، بعد بدايةٍ رهبانية في جبال سورية. لم تكن أشرس تلك "البطولات" سوى في المواجهات الداخلية، والصراعات المحلية.

ليس في مناسبة الحديث عن تلك الطائفة سوى الصراع القديم ـ الجديد، بين الثنائية المارونية، الأكثر جدلية في تاريخ لبنان المعاصر: ميشال عون وسمير جعجع. رجلان تمسّكا برايات القتال، منذ أواخر سني الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990). لا يكفي أن يكونا في خندقين متقابلين، بل يكنّان لبعضهما "كل المحبة". "محبة" تجلّت في محطتين. إحداها كلّفت ألفي ضحية في حرب إبادة متبادلة في 1990، والثانية أدّت إلى خسارة المسيحيين النفوذ السياسي في لبنان، بدءاً من منصب رئاسة الجمهورية، وصولاً إلى منصب أصغر عضو في أصغر بلدية لبنانية.

لم يقتنع الموارنة أنهم خسروا كل شيء، مع عون ومع جعجع. بل ظلّوا يعيشون في ماضي "المارونية السياسية"، التي شهدت أزهى عصورهم السياسية، بين عامي 1943 و1975. لم تبقَ لديهم أي فسحة ليُشبعوا "الأنا" الخاصة بهم، سوى قتالهم الداخلي. والباقي تفاصيل. فقد أظهر موضوع التمديد لمجلس النواب اللبناني، الأربعاء الماضي، حجم "ابتعادهم" عن الواقع، وغوصهم في أنانيتهم الخاصة التي أكدوا أنهم لن يتعلّموا منها، وسيكررونها في كل سانحة. هو قدرهم: الإفناء الذاتي والتآكل الداخلي.

في جلسة التمديد النيابية، كانت الميثاقية الطائفية، أو الديمقراطية التوافقية على المحكّ، من أجل تمرير بند التمديد. أمّنت القوات اللبنانية، بقيادة جعجع، المشروعية المسيحية، وبالتالي المارونية، للتمديد النيابي، كعهدها في معارضة عون في كل مفصل، منذ اتفاق الطائف 1989، إلى القانون الأرثوذكسي (اقتُرح كي يكون قانوناً انتخابياً) 2013، حتى اليوم. علماً أن التيار الوطني الحرّ، بقيادة عون، لم يُقدم على أي خطوة، من شأنها تكريس رفضه مبدأ التمديد النيابي، كتقديم الاستقالات، مثلاً، خصوصاً أن المجلس المُمدد له سيجري انتخابات رئاسيةٍ وقتٍ ما، وعون مرشح أساسي فيها. هكذا تدور الدوائر عند الموارنة: في فراغ قاتل.

وفي غياب أي طرف ثالثٍ يُمكن أن يردع عون وجعجع، أو قيام موجة شعبية في وجههما، بات غياب الكنيسة المارونية في لبنان واضحاً. البطريرك بشارة الراعي منهمك في صولاته وجولاته، في دولٍ، لم يظنّ كثر أن قدماً لبنانية ستطأها. لا يهم. هو يطأها، بينما ينصرف الداخل إلى الانتحار الذاتي. لم تعد حكاية الموارنة في لبنان مرتبطةً بقوة ونفوذ، أو ضعف وترهّل، بل باتت أكثر دقة "متى سينتهون؟". في الواقع، باتت الضربة القاضية السياسية جاهزة، ويُمكن تلقّيها في أي لحظة. المسار الانحداري لقوة سلطتهم وصل إلى الحضيض، وما عليهم سوى القبول بالأمر الواقع، على الرغم من "حبهم" إيلام بعضهم. لا يريد الموارنة الإقرار، بأنهم خسروا الحرب الأهلية والنفوذ السياسي والقوة الاقتصادية و"الهيبة" الداخلية.

يريدون أن يعيشوا على أمجادٍ مضت. تدرك باقي الطوائف ذلك، وهي تنتظر نهايتهم، كهنود حمر ينقرضون، قبل الانقضاض على ما تبقّى من حصصٍ سياسية لهم، وتقاسمها في صراع الأقوى اللبناني ـ اللبناني، والمُموّل من الخارج. هكذا علّمنا التاريخ، وهكذا تعمل الطبيعة بكل مكّوناتها. لا يُلام عون وجعجع وحدهما، فهما سليلا إرث عرّيق من الموت المتناسخ.

فحين تم تقسيم المقاعد داخل أول كنيسة مارونية في لبنان، في القرون الغابرة، على أن يجلس الأثرياء وأبناء الاقطاعيات في الصدارة، وترك المقاعد الخلفية للفلاحين، تأكدت هزيمتهم. لم يكن البطريرك السابق، نصر الله صفير، مخطئاً حين قال إن زمن الموارنة الحالي "زمن ماروني بائس".
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".