مهنٌ للفُرجَة

25 أكتوبر 2014
صناعة التحف الخشبيّة (العربي الجديد)
+ الخط -
يعود عمر حرفة "الكراسي الخشبية والقباقيب" في مدينة صيدا جنوب لبنان، إلى أكثر من 150 عاماً خلت. وفي داخل السوق القديم بالمدينة يقع سوق "النجّارين"، الذي كان مزدهراً في أيّام العثمانيين مروراً بزمن الانتداب الفرنسي على لبنان، وبعدها وصولاً إلى نكبة فلسطين في العام 1948 وما تلاها من إقفال المعابر التجارية بين لبنان وفلسطين.
هنا، في تلك الزاوية من السوق، تفوح رائحة الحِرَف القديمة. كلّ زاوية تحكي قصّة حرفة عبرت من هنا. بعضها اندثر وبعض منها يقاوم: المُنَجِّد، النَحّاس، الخيَّاط، المُبيِّض، وغيرها الكثير. هي مجرّد طرطقات، مصحوبة بصوت المطرب المصري عبد الحليم حافظ، تقطع عليك حبل التاريخ الذي يعبر وأنت تجتاز السوق ناحية "حرفة القباقيب والكراسي الخشبية القديمة".

سرعان ما تتعثّر نظراتك بـ"طبليات" قديمة و"مناخل"، وبالطبع بتلك الكراسي التي تسرق انتباهك لصغر حجمها وجمال نقوشها وتطريزاتها. هنا ستجد أحمد أبو ظهر يقف في محترفه يرمي بكلّ أعباء الحياة الخارجية بين طَرَقات "الشاكوش" المعطوفة على "حفيف" أوراق الخشب، يعمل بكدّ، ويتنقّل بين منخل يقوِّرُهُ، وبين طبلية يحفّها ويُدوِّرُها. ثم سرعان ما ينطلق في نقش قوالب المعمول الخشبية "التي لا تجدها إلا هنا بهذه الحرفية"، على ما يقول أبو ظهر في حديث لـ "العربي الجديد".
يروي أنّه ورث الحرفة عن والده الحاج توفيق. لكنّه لا يفكّر أبداً في توريثها لأبنائه، مثله مثل معظم "آخر العمالقة" من العاملين في مهن آيلة إلى الانقراض.
ويرد السبب إلى أنّها مهنة أُصيبت بالركود بفعل التكنولوجيا والصناعات البلاستيكية التي صار يُصنَع منها كلّ شيء: "فبعدما كان الزبائن يزورون سوق صيدا من مختلف المناطق اللبنانية، خصوصاً من بيروت والجنوب، صارت مصنوعاتنا للفرجة أكثر من البيع. فيأتي السوّاح الأجانب لالتقاط الصور فقط. ولا أخفي عليكَ أنّ هناك من يشتري مصنوعاتنا الخشبية بهدف التشجيع ليس أكثر".

يصنع أبو ظهر الكراسي الخشبية والقباقيب والمناخل والشوابك. ويلفت إلى أنّ هذه الصناعات صارت تُستخدَم للزينة فقط ولم تعُد تستعمل كحاجة يومية في البيوت، إلا نادراً. ومن يشترونها فمن باب "التراث" وليس من باب "الحاجة": "وهذا ما يجعلنا نصنع الأدوات الخشبية نفسها لكن بأحجام صغيرة تصلح للزينة".
بشكل عام تُعتَبر النّجارة في سوق النجّارين بصيدا حرفة يدوية تعتمد على آلات بدائية إلى حدّ ما: "منها القدّوم والشاكوش والمنشار وورق القزاز والقلم والبيكار". وترتكز هذه الصناعة على خشب السرو بالدرجة الأولى وعلى خيطان القشّ لصناعة الكراسي. ويعتبر النجّارون أنّ حرفتهم فنٌّ يختلف عن الفنون الأخرى: "يكفي أنّني حين أحمل بيدي خشبة صنوبر وأقلبها رأساً على عقب تصبح سريراً لا مثيل له"، يقول أحدهم.
ويلفت آخر، مسنٌّ، إلى أنّه "سيأتي يوم على هذه الأخشاب أن تجد نفسها وحيدة دون نجّار حرفيّ يجمعها في كراسٍ متعدّدة الأشكال، لكن آمل أن أجد من يتعلّمها ليكمل مشوار الحِرَف اليدوية لأنّه سيأتي يوم ونتحسّر عليها".
المساهمون