مهنة البحث عن الحرية
يسمونها مهنة البحث عن المتاعب، ونسميها، نحن الصحافيين، صاحبة الجلالة. وبين التسميتين، يكمن سر من أسرار هذه المهنة الصعبة دائماً، فهي، بالفعل، مهنة يبحث أهلها عن المتاعب، لا ليكتبوا عنها، أو لينقلوا أخبارها وحسب، بل، أيضاً، ليصيروا غالبا جزءاً منها، أو يجدوا أنفسهم في قلبها.
في السنوات الأخيرة، تزايدت أعداد الصحافيين الذين أصبحوا مادة للإخبار، بعد أن كانوا وسيلة لنقلها. وإذا كان الصحافي دائماً عرضة للخطر غير المقصود، بسبب اضطراره غالباً لأن يكون موجوداً في مناطق الخطر المقصود، فإنه أصبح، هذه الأيام، عرضة للخطر المقصود، بسبب ما يكتبه. صحافيون كثيرون قُتلوا بسبب ذلك، وآخرون سُجنوا، أو اختفوا في ظروف غامضة. ومع هذا، بقيت الكلمة حرة وحية، وبقي الخبر الصادق سيد العمل الصحافي دائماً.
أقول لكل طلبة وطالبات الإعلام في الجامعات الكويتية الذين يستضيفونني في بعض الحلقات الصحافية أحياناً؛ إنني ما زلت، ومنذ يومي الصحافي الأول، أذهب كل صباح إلى مكتبي في الجريدة التي أعمل فيها، وكأني أذهب الى موعد غرامي، أي بحماسة وشوق وتوقعات عالية السقف للمتعة واللذة والأناقة في كل شيء، والتفاصيل الكثيرة عن كل شيء جديد، دائماً الجديد. وبين ضحكات الطلبة والطالبات ودهشتهم من لغتي الصريحة، والتي قد لا تليق بالأجواء الجامعية عادة، أسترسل بتفصيل الأمر على أن هذا الشغف هو السر الأول الذي يربط الصحافي بمهنته، للاستمرار فيها، إن كان يمارسها على سبيل العشق والمتعة واللذة، أولاً، وتأتي كل الأمور الأخرى لاحقاً، وهي مهمة أيضاً.
ولأنني لم أترك المهنة يوماً واحداً تقريباً، إذ أصبح شارع الصحافة أحد معالم تاريخ حياتي كلها، فأراني، الآن، قادرة على رصد التغيرات التي ألمت بهذه المهنة، طوال هذه الفترة، وحولتها من متعة مشوبة بالحذر، وفقاً للغة الصحافية الدارجة تقليدياً، إلى متعة مشوبة بالتوتر والقلق والخوف. وبدلاً أن من يكتب الصحافي عن مناطق الحذر والقلق والتوتر، وينقل أخبارها إلى القراء، أصبح يعيش هذا الحذر والتوتر والقلق والخوف، وهو يمارس حياته العادية داخل مهمته الصحافية اليومية وخارجها.
قبل أيام، احتفل الصحافيون باليوم العالمي لحرية الصحافة، ونقول "احتفل" انسياقاً وراء اللغة المعتادة، لكن الصحيح أن نقول "نعى" الصحافيون حرية الصحافة في يومها العالمي، ففي معظم المقالات التي كتبها زملاء، بمناسبة هذه الذكرى السنوية، نلاحظ نقمة واضحة لا تجاه الصحافة، ولكن، تجاه الظروف المستجدة التي تمارس فيها هذه الصحافة.
في كل بلد من بلدان العالم قصة تستحق أن تُروى عن اضطهاد الصحافيين فيها. وبالتأكيد، الأمور نسبية بين بلد وآخر، حيث تتصاعد الحريات الصحافية طردياً مع تصاعد الحريات عموماً في هذا البلد أو ذاك. وفي كل تقرير نطلع عليه، يتعلق برصد ما يتعرض له الصحافي من مشكلات وصعوبات في عمله، على صعيد الحريات، نجد أن للدول العربية للأسف نصيب كبير، وبعضها ينال النصيب الأكبر عالمياً، لكن المثير حقاً أن الصحافة التي تشهد تطوراً ملحوظاً لجهة التحرير والسرعة في إيصال المعلومات وتنوع المصادر وازدهار في الشكل، ورقية أم إلكترونية، بقيت على صعيد الحريات متخلفة، بل متخلفة جداً، ولا بريق أمل كبيراً يمكن أن نبشر به في الأفق المنظور لسوء الحظ! وهكذا، يمكننا أن نغير لقب الصحافة المشتهر من مهنة البحث عن المتاعب إلى مهنة البحث عن الحريات.. وما زال البحث مستمراً.