اختتمت قبل أيام الدورة الثامنة والستين من مهرجان برلين السينمائي الدولي "برليناله"، والذي وصل إليه سينمائيّون وعاملون في القطاع السينمائيّ من كلّ أنحاء العالم، ليشاركوا ويعرضوا أفلامهم أو مشاريعها، لمشاهدة الأفلام، للكتابة عنها، لعقد اجتماعات ولقاء منتجين وغيرها من الأنشطة التي تدور حول شاشة السّينما وعالمها. يتغيّر وجه مدينة برلين خلال أيام المهرجان، حركتها، زيادة زائريها، وتتحوّل إلى احتفاليّة كبيرة للصورة والصّوت بالأفلام الروائيّة والوثائقيّة والتجريبيّة، القصيرة والطويلة، كما أن المهرجان يشكّل فرصة أيضًا لاكتشاف المدينة.
برلين مدينة تاريخ
في حديث مع علياء ذكي من مصر، وهي محامية، تعمل في القطاع السينمائي منذ 7 سنوات، خاصّة في مجال إدارة البرامج والإنتاج السينمائيّ، وهذه هي المرة الثانيّة التي تزور فيها "برليناله"، تقول عن المهرجان: "هو أوّل مهرجان سينمائيّ يُقام مع بداية كلّ عام، انبهرت دومًا من رؤية الناس يقفون عند التاسعة صباحًا في طابور ينتظرون مشاهدة فيلم سينمائيّ صُنع في ضفة العالم الأخرى، بالرّغم من البرد! أعتقد أن هذا يدفئ القلب، وأتمنى لو لدينا نفس الحماس في العالم العربيّ لرؤية مهرجان سينما وأفلام مستقلّة، ولكننا في الطريق إلى هُناك".
وعن برلين، عبّرت علياء ذكي عن حبّها للمدينة، وعندما تزورها، تقضي بعض الساعات تمشي في شوارعها، تقول: "لدي هاجس إزاء الحرب العالميّة الثانيّة والتاريخ الألمانيّ خلال الحرب وبعدها، لذلك زرت المتاحف المرتبطة بهذا التاريخ، وأجدها ساحرة ومحزنة بشكل عميق. أحبّ منطقة هاكيشر ماركت Hackescher Markt وكل الأسواق الصغيرة من حولها، كما استمتع باكتشاف مطاعم ومطابخ جديدة، خاصّة الفيتناميّة". ترى علياء أن برلين هي مدينة سينمائيّة جدًا، مليئة بالقصص، الكثير منها لم يُرو بعد، وفي إجابة عن السؤال لوّ أرادت أن تصنع فيلمًا عن برلين، عن ماذا سيتمحوّر، تقول: "ممكن أن أصنع فيلمًا عن المغتربين في برلين، وكيف منحتهم المدينة فرصًا مثيرة جدًا وتجارب لاكتشاف شغفهم".
شجر ميّت وقطارات
خلال أيام "برليناله"، وتحديدًا يوم الثامن عشر من شباط/ فبراير، عُرض للمرة الأولى، وذلك في عرض عالميّ، فيلم "أرض المحشر" لميلاد أمين وغيث بيرم، والذي يحكي عن آخر أيام حصار حلب الشرقيّة. ميلاد أمين هو مخرج سينمائيّ من سورية، درس الفنون الجميلة وعمل في مجالها بالإضافة إلى النحت، ومع بداية الثورة السورية، عمل في مجال التصوير الصحافي إلى أن تطوّر إلى صناعة أفلام وتقارير وفيديوهات، ومن ثم إخراج فيلمه الأوّل "خبي الموبايل"، ويعيش ميلاد اليوم في بيروت منذ 3 سنوات. "أوّل مرة بطلع على أوروبا، أصلًا أوّل مرة بطلع بالطيارة"، أجابني ميلاد عندما سألته عن برلين. ويواصل: "وصلت برلين عند ساعات الليل، أوّل ما لاحظته كان أن الشجر ميت، ولم يكن أحد في الشّارع، فاستغربت جدًا. في اليوم الثاني، نزلت إلى الشّارع لأتفقد المدينة، رأيت الحدائق والمساحات العامّة والدراجات الهوائيّة والقطارات في الشوارع، هنالك حالة من الحريّة في المدينة، كنت مرتبكاً في البداية، ولكن بسرعة اندمجت مع روح برلين". مع ذلك، أكثر ما أثار استغرابه هو أن الشجر ميّت في المدينة، وما لفت نظره أيضًا كان، على مستوى الناس، هو التنوّع بين الأعراق والجنسيات، وبما يتعلّق بأصدقائه وصديقاته ولقاءاته معهم/ن، قال ميلاد: "شعرت أن الناس مهزومة هنا، حتّى أصدقائي، أتخيّل أن السلام الذي يعيش في المدينة مغريًا، لكن، إذا فُرض السلام على الإنسان فرضًا، يجعل الإنسان كئيبًا وتتكوّن حالة استسلام، وهذا فرق مهمّ".
محمد الحديدي، هو مصّور ومخرج سينمائيّ من مصر، وصل برلين ومهرجان السينما الدوليّ للمرة الأولى، للمشاركة ضمن برنامج "برليناله تالينس" (موهوبو برليناله) خلال فترة المهرجان. خلال حديثنا عن برلين، تطرق إلى كونها مكاناً بصريّاً جميلاً، وتابع: "فيلم "وينغز أوف ديزاير (الجنة فوق برلين) للمخرج فيم فيندرز هو حكاية عظيمة عن المدينة، وكلما تحرّكت فيها، أتذكر شخصيّة من شخصيات الفيلم، وكل من عاش في المدينة أو يحبّ الفيلم، يعرف دقة نقل الفيلم لصورة برلين، كما أنّه بمثابة تحيّة للمدينة، حاملًا روحها، وكان حاضرًا معي طوال الوقت وأنا هُنا".
يرى الحديدي أن هنالك شيئا مستفزا في المدينة، يقول: "هي عكس الصّورة التي يتخيّلها زائر قادم من العالم العربيّ عن أوروبا، الناس يرمون السجائر في الشارع، يعبرون الشارع والإشارة ما زالت حمراء، والمدينة ليست نظيفة جدًا، وهذا كلّه جميل لأنها تفاصيل تصنع من المدينة إنسانيّة جدًا وليست بعيدة، بمعنى لا يوجد فيها شيء مرعب الجمال، وهي ليست متقدّمة تكنولوجيًا ومليئة بالروبوتس، بالعكس، هي حيّة، ففي حال قارناها مع كوبنهاغن مثلًا، سنشعر بمسافة بيننا وبين كوبنهاغن، هذه المسافة غير موجودة بيننا وبين برلين". عندما وصل الحديدي برلين، وقبل أن يدخل "الهوستل"، كان يقطع الشارع، فرأى سيارة مسرعة باتجاهه ومن ثم موكب سيارات زفّة، عن هذا يقول: "المكان مفتوح، فيه قوانين واحترام ومواعيد، وغالبًا هنالك مقاعد فارغة في المترو للجلوس عليها، لكنها لا تعمل بشكل روبوتيّ وليست جافة، مبانيها لا تلمع، وهذه يجعل من مشاهدها أكثر إنسانيّة، تجعل من المدينة قريبة وفيها حياة".