تُحصي الجزائر، اليوم، قرابةَ سبعين مهرجاناً ثقافياً يجري تنظيمها بتمويلٍ من وزارة الثقافة بشكلٍ دوري؛ مرّةً كلّ سنة أو سنتَين. وهذا العدد هو كلّ ما تبقّى من قائمة التظاهرات الرسمية، بعد أن ألغى وزير الثقافة الحالي، عز الدين ميهوبي، جزءاً كبيراً منها.
لم يُبد ميهوبي، الذي عُيّن في منصبه سنة 2014، مع إعلان الحكومة الجزائرية سلسلةً من إجراءات "ترشيد النفقات" في خضمّ تراجع واردات النفط، حماساً كبيراً لكثرة المهرجانات، بل اعتبَر أن كثيراً منها "يُشكّل عبئاً على الخزينة العمومية، ولا يُقدّم شيئاً"، كاشفاً، في ذلك الوقت، عن مشروع لمراجعة تنظيم المهرجانات الرسمية وتمويلها.
وبالفعل، سارع الوزير إلى تشكيل "لجنة" عَهد إليها بإجراء "مراجعة شاملة"، انتهت إلى الإبقاء على 77 فقط من أصل 186 مهرجاناً. غير أن كثيراً من التظاهرات التي سلمت من الإلغاء لم تسلم من تقليص حجمها وفترتها، أو دمجها في تظاهرات أُخرى، أو تحويلها من دولية إلى محلّية، أو إقامتها مرّة كلّ سنتين بدل إقامتها كلّ سنة.
في غمرة حماسه تلك، بشّر الوزير، الجديد حينها، بالتوجُّه إلى جعل الثقافة قطاعاً منتِجاً يُدرّ موارد مالية، بدل بقائه في وضعية المستهلِك لموارد الدولة، متحدّثاً عن ضرورة "خلق بيئة اقتصادية تستقطب المستثمرين الخواص"، خصوصاً في السينما التي اعتبَر أن بوسعها أن تكون المجال الثقافي الأكثر ربحية.
لكن، بدا من القرارات المتّخَذة أن الإلغاء والدمج كان الخيار الأسهل لـ "ترشيد النفقات"، بدلَ البحث عن مصادر أُخرى لتمويل التظاهرات خارج دعم وزارة الثقافة التي تُظهر أرقامٌ رسمية حصولَها على 0.5% و0.9% من ميزانية الدولة سنتَي 2014 و2015 على التوالي (276 و313 مليون دولار)، وهي أرقامٌ ضئيلةٌ بالمقارنة مع سنواتٍ سابقة وصلت فيها حصّة الوزارة إلى 1.2 % و1.1% من إجمالي الميزانية العامّة، كما في سنتَي 2011 و2012؛ أي قرابة 561 و452 مليون دولار على التوالي.
وإن كان مبرّر إلغاء 109 مهرجاناتٍ، أي أكثر من خمسين في المئة، هو التخلّص من تلك التي "تُشكّل عبئاً على الخزينة العمومية، ولا تُقدّم شيئاً"، ما يُفهَم منه الرغبة في الاحتفاظ بالنوعية منها فقط؛ فإنَّ ما بقيَ من "تظاهرات نوعية" لم يسلَم هو الآخر من العثرات في السنوات القليلة الأخيرة، بعد أن طاله خفض التمويل الحكومي.
هكذا، بات معظم تلك التظاهرات، الأدبية والمسرحية والسينمائية، مفتقراً إلى موعدٍ زمني مُحدّد، بعد أن كان يُنظَّم في مواعيد قارّة، بل إن عدداً منها لم يعد يُنظَّم إلّا بعد أن يتأجّل لأكثر من مرّة، وغالباً ما يُقام ضمن الشروط الدنيا، ومن دون أن يسمع به الكثيرون.
"مهرجان وهران للفيلم العربي"، الذي يُصنَّف ضمن المهرجانات "الدولية" الكبيرة في الجزائر، خصوصاً بعد إلغاء تظاهرات سينمائية أُخرى مثل "مهرجان الفيلم المغاربي"، نجح في الحفاظ على موعدٍ قارّ في السنوات الأخيرة، لكنه لم يسلم من العثرات التنظيمية واللوجستية، كما حدث في دورته الحادية عشرة التي نُظّمت فعالياتها بين 25 و31 تمّوز/ يوليو الماضي.
قُبيل انطلاق الدورة، أُثير جدلٍ واسعٌ على مواقع التواصل الاجتماعي حول ملصقتها التي وُصفت بالرديئة، فعلّق الوزير متأسّفاً من "اختصار المهرجان في ملصقة"، ما رأى فيه كثيرون "دفاعاً عن الرداءة".
ومع انطلاقتها، حدث تصادُم غير مسبوق بين إدارة التظاهرة السينمائية وهيئةٍ أُخرى تابعة لوزارة الثقافة؛ هي "الديوان الوطني للثقافة والإعلام". اتَّهمت الأولى الثاني بمحاولة عرقلتها، بعد أن رفضت تسليمها قاعة "سينما المغرب" حيث بُرمج حفل الافتتاح، ليردّ "الديوان" بالقول إنه لم يتلقّ طلباً من المهرجان لاستغلال القاعة التي تحتضن برنامجاً فنّياً، إلّا قبل 24 ساعة فقط من الافتتاح.
وخلال أيّام المهرجان، كانت نبرة الاستياء واضحةً لدى أكثر من ضيف؛ كالممثّلة المصرية عفاف شعيب، التي نقلت وسائل إعلام محليّة استياءها من تأجيل تكريمها عدّة مرات، وأيضاً المخرج والممثّل الفلسطيني محمد بكري، الذي حوّل مؤتمراً صحافياً عقده إلى "محاكمة" علنية للتظاهرة، بسبب تأجيل عرض فيلمه "واجب".
بحسب الباحث المختصّ في السياسات الثقافية، عمّار كسّاب، فإن "التظاهرات الثقافية الرسمية واصلت، في السنوات الأربع الماضية، تكريس الرداءة التي تَعوّدنا عليها منذ أكثر من عشر سنوات". يضيف، في حديثه إلى "العربي الجديد"، بأن التغيّر الوحيد الذي شهدته هذه التظاهرات يتمثّل في إلغاء عددٍ كبيرٍ منها في 2015، بعد انهيار ميزانية وزارة الثقافة بنسبة ثمانين في المئة بين سنتَي 2014 و2018.
يعتبر كسّاب أن "هذا المتغيّر أحدث صدمةً بالغة، لكن ليس للمواطن الذي تعوّد على مقاطعة الفعاليات الرسمية، بل لمن كانوا يستفيدون من أموال وزارة الثقافة". هنا، يُشير إلى أن تقارير "مجلس المحاسبة"، وهو هيئة رسمية مستقلّة، التي طعنت عدّة مرّات في حسابات وزارة الثقافة، من دون أن تُتبَع التقارير بأفعال ملموسة.
من جهةٍ أُخرى، يُعلّق كسّاب على الاحتجاجات التي شهدتها بعض المدن الصحراوية في الجنوب الجزائري، كما حدث في ورقلة وأدرار، ضدّ بعض التظاهرات الفنّية والثقافية الرسمية، ما أدّى إلى إلغائها، قائلاً "إن هؤلاء عبّروا عن سخطهم على الأوضاع المزرية التي يعيشونها، خصوصاً أن الفعاليات الثقافية لم تنفع مدنهم في شيء، لا على المستوى الثقافي، ولا الاجتماعي ولا الاقتصادي".
وفي ظلّ ما يعتبره متابعون إخفاقاً واضحاً للتظاهرات الثقافية الرسمية، تُثار أسئلةٌ حول الحراك الثقافي المستقلّ في الجزائر، والذي يبدو غائباً إلّا في ما ندر: هل السبب رغبة السلطة في احتكار الساحة الثقافية، أم كسلُ الفاعلين الثقافيّين؟ يُجيب كسّاب بالقول إن "السلطة وضعت استراتيجيةً مُحكَمة تسمح لها بالتحكّم، وبشكل مطلق، في الفعل الثقافي، وهي لا تتردّد في محاربة من يُحاول أن يعمل في القطاع بصورة مستقلّة".
يُضيف: "تظن السلطة أنها، باحتكارها الفعل الثقافي، تحمي الهوية الثقافية الجزائرية، وهذه رؤية خاطئة؛ لأن هويّة الجزائر متعدّدة، ويعيشها الجزائريون في حياتهم اليومية، بعيداً عن الفعل الثقافي. الثقافة الرسمية التي تُنتجها السلطة تستهلكها هي نفسُها، ولا تعني المواطن العادي الذي هجر فضاءات الفعل الثقافي منذ زمنٍ طويل. أمّا القطاع المستقلّ، فهو محدودٌ جدّاً، ولا أعتقد أن الوضع سيتغيّر على المدى القصير أو المتوسّط".