مهدي عامل: المثقف الثوري

19 مايو 2017
+ الخط -
لا يعرف كثيرون من جيلي، أعني المثقفين ممن يفترض بهم المعرفة، اسم "مهدي عامل"؛ فصاحبه كان جزءًا من إرث ماركسي عربي، حرص العرب في منعرج مواتهم التاريخي بعد كامب ديفيد، على أن يغتسلوا منه، وأن يمحوا أي أثر له، وإن استلزم محوه الدم، كما تم مع عامل نفسه ورفاقه. صاحب الاسم لم يكن سوى فتى شيعي من الجنوب اللبناني، ولد سنة 1936، ولم يحتج ما احتاجه أستاذه وشبيهه، حسين مروّة، من الوقت وجهد السفر إلى النجف قبل أن يجد ضالة العدل المفقود الذي يبحث عنه، في ظلال الماركسية. فالشيوعية كانت آنذاك، أي قبل الثورة الإيرانية، ملاذ الشيعي الذي لا ملاذ له سواها.

سافر حسن حمدان، وهذا هو اسم "مهدي عامل" الذي ولد به، إلى باريس لدراسة الفلسفة، ومنها عاد ماركسياً لينينياً صارماً. لكن صرامة حسن العلمية، وهي الصفة التي كان يحلو له أن يصف بها فكره كونه منطلقاً من الماركسية اللينينية بوصفها علم التاريخ على الحقيقة، لم تغلب حسه المرهف وانتماءه العضوي المحلي إلى العروبة ولبنان، وإلى أهله في الجنوب. فالرجل الذي كتب "مقدمات نظرية"، وهو الكتاب الذي رمي بالتجريد والصعوبة حد الشكلية (وهي تعبير مهذب عوض القول إنه كلام فارغ)، هو الذي قال أيضاً:أمجد عينيك.. أغني للبحر.. هل للبحر نقاوة عينيك؟/ أمجد عينيك.. أغني للبحر.. هل للأرض ضرورة عينيك؟".

وهكذا اختار حسن، أيضاً، أن يستدعي أحلام أهله في الجنوب اللبناني، ورمزه جبل عامل، بمهدي ينشر العدل، لاسمه المستعار "مهدي عامل"، ذلك الاسم الذي تنصهر فيه أحلام الخلاص الدينية بأحلام الماركسية الطوباوية رغم ادعاءاتها العلمية.

ثَمَّ كثير قد يقال عن فكر مهدي؛ لكن حياته التي كلّلها استشهاده على يد متطرفين من حزب الله أرادوا القضاء على آخر أحلام العدالة والانتماء الأهلي الحقيقي، لإحلال السلطة الطائفية والاستغلال المخبّأ فيها، ينبغي أيضاً الوقوف عندها. فقد عاصر مهدي نشأة "يسار الكافيار"، لكنه، مع رفاق من طراز حاوي ومروّة، كان يدرك أن الأيديولوجي واليومي لا ينفصلان إلا في الأوهام التي تبثها الطبقة المسيطرة، فلم يكن مثقفاً عضوياً في نضاله فحسب، بل كان كذلك في يومه اللانهاري الذي يصفه: للسوق الصبح/ وللجامعة العصر/ وللتعب اليومي جميع الوقت/ متى يبتدئ نهاري؟!".

لم تتفكك اليوم فحسب تلك الأخلاقية اليومية للمثقف، بل تفككت قبلها يقينيات الماركسية اللينينية، أو علم التاريخ كما يصفها عامل. غير أننا قد نحتاج اليوم إلى ذلك الوعي الذي أدرك به عامل تراكب الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي في البنية الاجتماعية، لاستيعاب حقيقة صراعاتنا بعد ثلاثين عاماً على رحيله. يرى عامل أن تلك المستويات الثلاثة للبنية الاجتماعية، وعلى الرغم من تحددها بالتناقض الاقتصادي، إلا أن محركها يقبع في التناقض السياسي الذي قد يتخذ شكلاً أيديولوجيا أو اقتصادياً. لذلك، فإن الانخراط في النضالات الاقتصادية أو الأيديولوجية دون الوعي بكونها أشكالاً للتناقض السياسي المسيطر، هو وهم ينبع من الممارسة السياسية والأيديولوجية للطبقة المسيطرة. فلا سبيل إلى حيازة السلطة الأيديولجية أو الاقتصادية، كما يؤكد عامل، دون انتزاع السلطة السياسية من الطبقة المسيطرة.

لقد لبست الثقافة العربية نحو نصف قرن، ونحن نشهد اليوم الذكرى الخمسين لهزيمة يونيو/حزيران، تفارق ذلك المنطق السياسي كما يوضحه عامل، وتنغمس في نقاشات نظرية بمعزل عن السلطة. أما من بقي من مثقفي اليسار، فقد ركن تحت ضغط اليأس من صلادة الواقع، إلى الممارسة الاقتصادية بمعزل عن مطلب انتزاع السلطة السياسية. لقد توقع عامل ذلك الانحراف مبكراً في كتابه عام 1974 "أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟" عندما رأى جنوح المثقفين العرب إلى النقد الثقافي دون أساس من العمل السياسي والوعي بالقاعدة المادية للمسألة الاجتماعية. وها هو عامل إذن، يبدو بعد ثلاثين عاماً على رحيله الذي تزامن مع انهيار فكره الماركسي اللينيني، أكثر راهنية من هؤلاء.

دلالات
محمود هدهود
محمود هدهود
كاتب وباحث مصري في الفكر والفلسفة الإسلامية

مدونات أخرى