في الدولة والعنف
ثمّة كثير قيل عن التقرير، وثمة كثير قد يقال. قطعة صحافية ممتازة من الناحية الفنية فكرة ومادة وإخراجا كما اعتدنا من "مدى مصر"، هذا ما سيلفت نظر كل من يعتني بفن الصحافة بالتأكيد. سيسخط بعض الإخوان بالطبع من اعتماد التقرير في جانب كبير منه على تحقيقات النيابة التي يشكّكون فيها دون تمييز، لكن آخرين من المثقفين الإسلاميين كذلك سيجدون فيه ما يستحق التقدير: كل ذلك الجدل الذي دار بين الإخوان حول حدود العنف، والحذر من الوصول إلى القتل، وتبرير القتل بالأفعال لا بالعقيدة، كما ورد بوضوح على لسان أحد المتهمين في التحقيقات.
سيصيح الدولتيون أخيرا بأنهم على حق؛ الدولتيون كلهم حتى أولئك المدعوّين يساريين أو حقوقيين أو نقّاداً من بينهم لا مؤيدي الجنرال فحسب؛ ألم تروا أن العنف غريزي في تلك الحركات الأصولية والإسلام السياسي، وأن عنف الدولة ليس سوى انعكاس ذلك العنف. هذا هو لسان حال هؤلاء إن لم يكن لسان المقال.
لا بأس بكل ذلك الجدل أن يثار في مجتمع مأزوم ودولة يؤكد رئيسها بنفسه أنه بحاجة إلى خلق "فوبيا إسقاطها" لدى الجماهير، أو وطن ضائع أو نصف دولة، كل ذلك بحسب تصريحات له أيضا. ما توقفت عنده كان شيئا آخر مختلفا إلى حد قليل أو كبير: هنالك نحو ثلاثين شخصا محكومين بالموت. كلهم شباب، ريفيّون، من أسر الطبقة الفقيرة أو الوسطى، متدينون، مغتربون عن مجتمعهم المجرف ودولتهم المسروقة، وجدوا في جماعة الإخوان المسلمين الإطار الاجتماعي، شبه الوحيد، الذي ينفي اغترابهم. واجه هؤلاء كل ما يترك الشاب وراءه محطما، حلما مجهضا، عنفا مباشرا، نبذا اجتماعيا، أذى في النفس والأهل والأحباب.
قصتهم لا تختلف كثيرا عن قصتي وقصة كثير من الشباب المصريين. ثلاث نهايات فحسب هي ما يمكن أن تنتهي إليه تلك القصة: إلحاد، الشك واليأس، أو محكمة جنايات جنوب القاهرة وقاضٍ جاهل لا يشبه ابن رشد الذي جسّده خيال يوسف شاهين في المصير حين رفض إعدام شاب متطرف، لأنه رأى أن تطرفه يعود للمجتمع، أو عناية إلهية بلطف جلي أو خفي.
قد تتجسد تلك العناية الإلهية في أسرة تحتضن ابنها، أو ارتحال عن الوطن بكل ما ينوء به من القهر، أو ثقافة ضخمة حصيلة ليال متصلة من المطالعة والتأمل ووضع الفرضيات واختبار المقولات وخلق المفاهيم وبناء الأنساق وحل التناقضات، لترسيخ الإيمان بالمقدس والدين والأخلاق والديمقراطية الجذرية وكونية حقوق الإنسان، وفهم نظرية الدولة وبنية المجتمع الحديث ومنظومة الرأسمالية وجوهر الفعل السياسي واستراتيجية الثورة وموقع العنف وبناء السلطة والأمة، ومشروع التحديث الاجتماعي. لكن هل من الطبيعي أن يحتاج الإنسان إلى كل ذلك لينجو من حكم بالإعدام؟ هل هو الظلم الإلهي لمن لم تحطهم تلك العناية اللطيفة، ما يسحق هؤلاء المساكين، أم هو ظلم من نوع آخر؟ هذا هو السؤال الذي ما زال يؤرّقني.
آمنت منذ زمن بأن السياسة ميدان القوة، وأن بين الحياة الإنسانية ويوتوبيا الملائكة أو الآلات مثل ما بين خطين متوازيين لا يلتقيان أبدا، وأن العنف لذلك لا يواجه إلا بعنف مثله، وأن ما يميز عنفا عن عنف إنما هو منطلقات ذلك العنف وخطته وحدوده، وأن هنالك بالتالي عنفا إلهيا بحق كما زعم روبسبيير وفالتر بنيامين. لذلك لا أحاول هنا أن أقدّم مذكرة دفاع عن هؤلاء الشباب ضد حكم القاضي الجاهل في جنوب القاهرة، وإن كان إنقاذ حيواتهم هو عمل سامٍ بالتأكيد بالنسبة لي على الأقل، وإن تورّطوا بالفعل في القضية. ما أحاوله هو تفكير بسيط جديد قديم في الموقع الاجتماعي للعنف.
يشتهر تعريف ماكس فيبر للدولة في مقالته الأهم "السياسة كحرفة" بوصفها المجتمع الإنساني الذي يزعم احتكار الاستخدام المشروع للعنف. فالدولة تعمل على مصادرة العنف ضمن مصادرتها التدريجية لسائر أدوات السلطة وأدوارها. وتمثل مصادرة العنف على وجه التحديد إحدى أهم مهام الدولة، وربما مهمتها الوحيدة أو الأهم بحسب نظرية الدولة المحدودة الليبرالية.
فبينما يرفض الليبرالي تدخل الدولة في الأخلاق الفردية والملكية الخاصة والشأن الاقتصادي برمته، ويحاول تحجيم الدولة حد ظهوره بمظهر عدو الدولة، فإنه يؤكد دور الدولة في استخدام العنف لحفظ الأمن، وهو ينقلب في تلك المساحة شاء أم أبى إلى هوبزي واقعي يعترف بالشق الحيواني للإنسان وبالحتمية التاريخية للدولة، وإن بلغة أخف من لغة هيغل المثالية.
حتى عندما يصيح نقاد الدولة بمسؤوليتها عن العنف بناء على تعريف فيبر، فإنهم يبدون أقرب إلى بناة يوتوبيا منهم إلى منظّري سياسة. فالمجتمع دون الدولة ما هو إلا مجتمع طبيعي، مجتمع العنف أو حرب الجميع ضد الجميع بتعبير هوبز. إنه ما قبل مجتمع أو ما دون مجتمع في الحقيقة، وهو حالة نظرية افتراضية أكثر منه نموذجا واقعيا للعيش الإنساني. مهمة الدولة إذن، وما يمنحها حق مصادرة العنف، هو استخدامه لمنع العنف. بعبارة أخرى، ما يجعل استخدام الدولة للعنف مشروعا بحسب تعريف فيبر إذن، هو قدرتها على توظيف العنف ضد العنف، أو لتقليل العنف أو ردعه.
ما حدث في حالتنا هو أن عنف الدولة لم يستخدم لمنع العنف، وإنما أدى استخدامه المفرط كأداة لممارسة السلطة، أو بالأحرى لحماية مشروع سلطة محدد يعود لشخص محدد ومؤسسة محددة، هي شخص الجنرال ومؤسسته العسكرية، إلى خلق عنف مضاد، يمكن إدانته، له أسبابه الثقافية وجذوره الاجتماعية، لكنه يبقى قبل كل شيء عنفا مضادا وليد جرعات عالية من عنف الدولة. هنا يصير الدفاع عن عنف الدولة ليس حماية للدولة ولا طريقا إلى إنهاء العنف، وإنما طريق لتقويض شرعية الدولة القائمة بالأساس بهدف تقليل استخدام العنف، وطريقا أيضا لإنتاج عنف اجتماعي بنيوي نابع من عنف الدولة البنيوي ضد المجتمع.
هل يكون الحل إذن هو إعدام نحو ثلاثين شخصا فضلا عن سجن أكثر منهم عقدا أو أكثر؟ أليس من الرشد على الأقل تقليل عدد المحكومين بالموت.. على الأقل؟ هذا أكثر ما يمكن أن يرجوه "المنفيون" من أمثالنا:
قطيع نحن والجزار راعينا،
ومنفيون نمشي في أراضينا،
ونحمل نعشنا قسرا بأيدينا،
ونعرب عن تعازينا لنا فينا..