مهارة الاستغناء

13 سبتمبر 2014

الاستغناء مهارة لا بد من إتقانها في مرحلة ما

+ الخط -

اشتكت السيدة الأربعينية الحائرة، جراء تغير مشاعر صديقتها المقربة التي أصبحت أميل إلى الجفاء والبرود والتباعد، قالت بأسى: نحن صديقتان منذ أيام الجامعة، جمعتنا مشتركات كثيرة، منذ تعارفنا في السنة الدراسية الأولى، وتشاركنا المرة قبل الحلوة. كان الناس يعتقدون أننا شقيقتان، لأننا تلازمنا سنوات طويلة بعد التخرج، واعتدنا القيام بكل شيء سوية. نذهب إلى التسوق، نتبادل الزيارات شبه اليومية، ونتشارك بالهموم والأسرار والقرارات المصيرية والتفاصيل، مهما بدت تافهة، كانت دائماً بجواري. حين تزوجت، رافقتني وخطيبي إلى السوق، ساعدتني في اختيار ثوب زفافي. وعندما أنجبت أول أبنائي، قضت الليلة في المستشفى، تساندني وتخفف من آلامي.

بطبيعة الحال، لعبت معها، سنوات، الدور المساند نفسه، حتى إن أولادنا يتعاملون مثل أي أشقاء يلعبون ويدرسون ويتشاجرون ويتصالحون ويستعيرون الثياب والألعاب، ويتبادلون الأسرار. وغدا زوجانا، بطبيعة الحال، صديقين، يقومان بأنشطة رجالية كثيرة سوياً، وطالما قمنا بنزهاتٍ عائليةٍ جميلة. كبرنا معاً، وكبر أولادنا في هذا الفضاء الإنساني الحميم.
أحسست بأننا سنظل هكذا إلى الأبد، لخصوصية تلك الصداقة  القديمة، المبنية على التفاهم والحب والإخلاص، صداقة راسخة ضرب بها المثل، لأنها ظلت  مبعث غيرة الآخرين وحسدهم، غير أن صديقتي العزيزة، وبدون أي  مبررات واضحة، بدأت في التغير تدريجياً، وأخذت تبتعد عني، وتتهرب من أي لقاء، وتختلق ذرائع، لكي تظل بعيدة، وانعكس هذا التغير،  لشديد الأسف، على علاقة الأسرتين الصغيرتين  التي تباعدت بدورها، أخذت تتذرع بالانشغال، مرة تلو أخرى، وخففت  أسباب التواصل فيما بيننا إلى حدها الأدنى، غير أنها لم تشأ قطع شعرة معاوية كلياً، وظلت تقوم بالواجبات الاجتماعية بدون أي تقصير، ولكن، بدا واضحاً جداً أنها تبذل جهداً مضاعفاً في المجاملة، وإبداء اللطف، والاكتراث المفتعل، تماما مثلما يحدث بين الأقارب الذين يضطرون إلى اللقاء الموسمي في الأعياد والمناسبات.

تقول السيدة: رغم ألمي وإحساسي الشخصي بالخسارة، غير أنني اضطررت إلى الاستجابة إلى إشارات صديقتي، ورغبتها في الابتعاد، فاتخذت قراراً جذرياً بالقطيعة التامة، كي أعفيها من  تبعات العلاقة البروتوكولية، وذلك بعد عدة محاولاتٍ مخلصةٍ بذلتها، في محاولة وصل ما انقطع  من باب الوفاء إلى التاريخ والعمر الذي مضى، وكان مصير تلك المحاولات الفشل الذريع، فقبلت بالهزيمة، وأعلنت وفاة تلك الصداقة الكبيرة، واحتسبتها في ذمة النسيان، لكن الفضول يكاد يقتلني لمعرفة سبب ذلك الجفاء كله.

تمنيت، وأنا استمع إلى شكوى السيدة، لو أن صديقتها موجودة في الجلسة، لكي نطل على وجهة نظرها في المسألة، إذ مؤكد أن لديها ما تقوله، وأيا كان موقفها، فالأصل أنها حرة في تحديد شكل علاقاتها بالآخرين، وأظن أن صاحبة الشكوى تتحمل مسؤولية الاتكاء العاطفي والنفسي المبالغ به على تلك الصداقة، من دون الانتباه إلى أن حال البشر متغيرة، شأن الطبيعة ذاتها. تذكرت الحديث النبوي الشريف، وهو الدرس الأبلغ، في كيفية إدارة العلاقات الإنسانية، على اختلاف مستوياتها: أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما. الصداقة، ببساطة، تشبه أي علاقة إنسانية، فهي تقتضي إدارة حكيمة متوازنة من الطرفين، وهي، بالتأكيد، معرضة للضجر والعتب والتعب والروتين وسائر التحولات، بسبب تغير الأمزجة. 

السر، إذن، في ما بين هذه (الهون ما واليوم ما) التي ننساها، دائماً، في حراكنا الإنساني، على الرغم من أنها الضمانة والمساحة الخاصة التي تحمي الأرواح من الإحساس بالخيبة والخذلان اللذين قد يتسبب بهما أقرب الناس أحياناً. وعند استنفاد كل وسائل الإبقاء على نضارة وعافية صداقاتنا وعلاقاتنا الإنسانية عموما، يظل أمامنا خيارٌ لا يخلو من قسوة: الاستغناء، وهو مهارة لا بد من إتقانها في مرحلة ما.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.