من يهدّد الكعبة؟

08 مايو 2015

الكعبة المشرفة (3أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

لا يكاد يوجد، اليوم، بلد عربيّ ليس فيه فتنة واقتتال: أنظمة تفتك بالشعوب، وشعوب تحارب الحكومات، وجيوش تقتل المواطنين، ومدنيّون ينسلخون من مدنيّتهم ويحملون السلاح، وأحزاب يكيد بعضها لبعض، وفِرَق يكفّر بعضها بعضا، ومُفْتون يجيزون القتال، وآخرون يحرّمونه، ويكاد يكون شعار الناس: إن لم تَقْتُل قُتِلت، وإذا لم تُكُفِّر كُفِّرْت، وإذا لم تُخَوِّف ولم تُهَدّد خوّفوك وهدّدوك وحاصروك. والحقّ في هذه الفتنة مُختَلَس، والصواب مفقود، والتلبيس غالب.

ومن الأمور التي غلب فيها التلبيسُ والتهويلُ التخويفُ من استباحة الحرمين في مكّة والمدينة، فالكعبة ومسجد النبيّ عليه السلام مهدّدان بالهدم بقنابل داعش والوهّابيّة، ويُخشى حقّا أنّ يقوم جماعة من الشباب الوهّابيّ بتفجير الكعبة التي يعتبرونها حَجرا يُعبد من دون الله. وقد تركتْ داعش في القرى والمدن التي مرّت بها، أو استوطنتها، شواهد على أنّها كارثة تجتثّ الإنسان والتاريخ، فمخالفوها كفّار، والآثار أصنام وأوثان، وكتب الفلسفة والأدب واللغة لَهْو وضلال، والفنون فجور، والتوحيد الخالص هو إبادة كلّ ما خالف برنامج داعش، حتّى صار التدمير والإسراف في القتل أعظمَ مآثر جنودها. إلّا أنّه لا دليل على أنّ التنظيم ينوي هدم الكعبة، وأَكْثَرُ ما يُرَوَّجُ في التخويف من تهديده بهدمها تغريدَةٌ في "تويتر" لداعشيّ مجهول، يُكنّى أبا تراب المقدسيّ. وأبو تراب في التراث الشيعيّ كنية عليّ بن أبي طالب، ويُستغرب أن يَكْتَنِيَ بها داعشيّ، وهو يكفّر الشيعة ويسمّيهم رافضة. وأمّا سلفيّة السعوديّة فلا يُتَصوّر أن تهدّد بهدم الكعبة، فخبر هدمها مرويّ في أشراط الساعة وفتن آخر الزمان، عندما "لا يبقى في الأرض من يقول الله الله"، فلا يمكن أن يهدّد سلفيّ
بهدم الكعبة، فيَشهد على نفسه أنّه من شرار الناس الذين تقوم عليهم الساعة. ولا يمكن، أيضاً، الاستدلال على احتمال هدمهم إيّاها بما وقع في بداية القرن العشرين من إزالةٍ للقبور والآثار، فقد تغيّرت العقليّة، وثمّة اليوم اهتمام بالآثار، وهيئة وتشريعات لحمايتها.

وليس التهديد بهدم الكعبة من ابتكار داعش، بل من سياسة نظرائهم في جماعات دينيّة سياسيّة أكثر من داعش، عُدّة وعددا، وتهديدُهم مبنيّ على عقيدة دينيّة، فقد روى شيخ الطائفة في كتاب "الغيبة" عن الصادق أنّه قال: "القائم يهدم المسجدَ الحرام حتّى يردّه إلى أساسه، ومسجدَ الرسول صلّى الله عليه وآله إلى أساسه، ويردّ البيت إلى موضعه وأقامه [يقيمه] على أساسه". والدليلُ على تأثير هذا الخبر ورسوخ هذه العقيدة كثرةُ المبشّرين في "يوتيوب" ومواقع الإنترنت، بما سيفعله القائم في الحرمين. فليس لكلام من ضعّف الخبر وأبطل الاحتجاج به قيمة واقعيّة، بل إنّ من ضعّفه قال: "فإذا هدَمَ [القائم] المسجدين إلى أساسهما، فلا ينبغي لنا أن نشكّ في صحّة فعله، وكونه مرضيًّا عند الله سبحانه، وإلّا لَمَا كان المهديّ عليه السلام محمود السيرة، وموصوفاً بأنّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً".

ومن هذه المدرسة، تخرّج الشاعر الإيراني، مصطفى بادکوبه ای، الذي نشر، قبيل أيّام، قصيدة من 26 سطرا عنوانها "حج را رها کن" (اُتْرُك الحجَّ)، وهي تدور على معاني السخرية من العرب، ولا سيما السعوديّين، والتحريض على ترك الحجّ إلى كعبتهم، والفخر بالعرق الإيرانيّ. ودعا فيها الإيرانيّين إلى "ترك الحجّ، وترك هذا الجهل والخمول، فالله ليس في كعبة العرب"، وحرّض الإيرانيَّ قائلا: "إذا كنت إنساناً من النسل الإيرانيّ، فيجب عليك ألّا تذهب إلى الحجّ"، وتمنّى في آخر القصيدة أن يحرّم الفقهاء في إيران الحجّ. وللقصيدة علاقة بخبر التحرّش بشابّيْن إيرانيّين في جدّة إن صحّ. ولكن، أليس تفجيرُ الكعبة رمزيّا بالسخرية والتحريض العنصريّ تهديدا للحرم؟ أليس الوعيد بهدمها والتباهي بذلك في "يوتيوب" أَضَرَّ على المسلمين ووحْدَتِهم من تغريدةٍ مجهولةِ النَّسَب في "تويتر"؟

ليس مهمّا في خطاب التخويف أن يكون داعشيّا أو مهدويّا أو غير ذلك، فله في كلّ حال حقيقةٌ واحدة، ومنهجٌ واحد، ونتيجةٌ معروفة. فحقيقته أنّه مَارِقٌ من الوطن، وقد يكون المارق من وطنه علمانيّا استئصاليّاً، أو طائفيّا متعصّباً، أو مستبدّا ظالماً، أو عميلا خائناً، أو انتهازيّا مَهِينًا. وكُلُّهم يُلْغِي الوطن، فيتنكّر لتاريخه وهويّته ولسانه؛ أو يَعُدُّه ولاية تابعة لإمام أعجميّ أو مستعمر أجنبيّ أو قاتل مستتر؛ أو يعتبره مُلْكا أبديّا له ولنسله، يعبث بكلّ شيء فيه؛ أو يبيع سِرَّه وأَمْنَه بشهوة زائلة؛ أو يَحْسِبه غنيمة فكلّما تمكّن نهش. ومنهجُه التفريقُ والتلبيسُ، فلا يرى الناسَ إلّا عدوّيْن: فسطاطَ حقٍّ وفسطاطَ باطلٍ؛ أو خاصّةً وعامّةً؛ أو حداثيًّا ورجعيّا. ولا يصف من الواقع إلاّ بعْضَه، فيحذّر من الإرهاب الدينيّ ويتغافل عن الأنظمة العلمانيّة المستبدّة؛ أو يبكي الشعبَ اليمنيّ المظلوم، ولا ترى عينُه الشعب اليمنيّ الذي ملأ الشوارعَ والساحاتِ اعتراضا على الانقلاب الطائفيّ وتأييدًا للعاصفة العربيّة؛ أو يخوّف من هدْمِ الغلاةِ الكعبةَ، ويَتَصَامُّ عن تهديدِ جماعته بهدمها، وتحريضِ بعضهم عليها وسخريتهم من أهلها. ويستوي في التلبيس العالِمُ المعمَّمُ والباحثُ الأكاديميّ والأميُّ التابعُ والقاتلُ المحترفُ، فكُلُّهُمْ يَلْوِي الحقيقةَ لَيًّا، ويستدرج جمهور الناس بالمغالطة، ويغالب الواقع بالمكابرة، فيزداد من وطنه مروقا، ومن أمّته بعدا، ويستأصل شعبيّتَه من قلوبها. وأمّا نتيجة هذا الخطاب فهي مَلْءُ المجتمع عداوة وتحجّرا وتخريبُ الاجتماع وتدميرُ الوطن.

هذا الخطاب هو الذي يهدّد الكعبة، فمن مَرَقَ من وطنه وانسلخ من عروبته وانتمائه، ضيّع أمّته وسلّ عليها سيف الطائفيّة وأنهكها بتبعيّته للأجنبيّ، وخرّب مجتمعه ودمّر نفسه ومشروعَه.

A614EF74-C1F1-4E15-90EC-0B94242176DA
عبدالله جنوف

أستاذ بالجامعة التونسيّة. متخصّص في الإسلاميّات.