ولكن من يحمل في يديه مفتاح ملف ترامب؟ الحديث هنا لا ينضب عن كريستوفر ستيل، 53 عاماً، الضابط السابق في الاستخبارات الخارجية البريطانية "إم آي 6"، والذي عمل لسنوات في روسيا تحت غطاء دبلوماسي، وأصبح لاحقاً مديراً لشركة "أوربيس بزنس إنتليجنس"، وهي مركز أبحاث استخباري، وعن كونه مصدر التسريبات الخاصة بعلاقة ترامب بموسكو.
وفي هذا الإطار، أفردت مجلة "نيويوركر" الأميركية أمس الاثنين، تقريراً – بورتريه عن ستيل وعن الطريق الطويلة التي أوصلته إلى "ملف ترامب"، تسلط الضوء فيها خصوصاً على محاولة دحض الاتهامات التي يوجهها فريق ترامب إلى الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما والديمقراطيين بأنهم وراء "ملف كاذب".
من هو كريستوفر ستيل؟
ولد ستيل في العام 1964، في عاصمة اليمن آنذاك، مدينة عدن الجنوبية، حيث كان يعمل والده لصالح "خدمة الطقس البريطانية". مشواره المدرسي كان مبهراً، وتم قبوله في جامعة كامبردج في العام 1982، وكان داعماً لحزب العمال البريطاني، وظلّ كذلك، حتى غزو العراق في عهد رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير.
يقول صديق لكريستوفر ستيل، حاورته الـ"نيويوركر"، عنه، متذكراً تصويت الأخير لصالح شخصية من حزب المحافظين خلال انتخابات محلية في بريطانيا رغم تأييده لـ"العمال": "هو ليس أيديولوجياً، إنه براغماتي، ولديه أفكاره السياسية". ويقال عنه أيضاً إنه "أول رئيس لاتحاد طلبة كامبردج دعا عضواً في منظمة التحرير الفلسطينية لإلقاء كلمة داخل الاتحاد".
وكان يرغب بعمل صحافي أو في مجال الحقوق، لكنه تقدم بالصدفة إلى عمل في جهاز المخابرات "إم أي 6"، ليغادر لاحقاً، وهو لا يزال في العشرينات من عمره، للعيش في موسكو، حيث عمل لصالح جهاز الاستخبارات البريطاني، تحت غطاء دبلوماسي في السفارة البريطانية.
وكانت الأعوام الثلاثة التي قضاها كريستوفر ستيل في موسكو من الأكثر دراماتيكية في تاريخ روسيا، التي شهدت انهيار الحزب الشيوعي والحراك القومي في أوكرانيا والبلطيق والقوقاز، وزوال الاتحاد السوفييتي.
في ذلك الوقت، عاد فلاديمير بوتين، العميل في جهاز المخابرات "كي جي بي" آنذاك، من ألمانيا الشرقية، لإعادة خلق نفسه في ظلال سانت بطرسبرغ السياسية.
وفي العام 2006، أدار ستيل الذي يتحدث الروسية بطلاقة "مكتب موسكو" من لندن، ومعه ارتفع منسوب التشاؤم لديه من توجه روسيا الفدرالية. وفي العام ذاته، تسلم التحقيق في وفاة ألكسندر ليتفيننكو، وهو معارض شرس لبوتين عمل في الـ"كي جي بي" وانتقل إلى "إم أي 6"، ليخلص ستيل إلى اتهام شخصين بعملية القتل، وتورط "جهاز الأمن الفدرالي الروسي(FSB)"، بموافقةٍ على الأرجح من بوتين نفسه.
في ملخص مسيرة ستيل التي تربطه بروسيا، تفيد "نيويوركر" بأنه في العام 2008، زار مدير وكالة الاستخبارات المركزية "سي أي إيه" مايكل هايدن، الممكلة المتحدة، واستمع من ستيل إلى ملخص حول التطورات في روسيا. وفي العام الذي تلاه، اطلع أوباما خلال زيارة للعاصمة البريطانية على تقرير عن روسيا كتبه ستيل أيضاً.
وكان ستيل قد أبلغ حينها "إم آي 6" عن رغبته في ترك العمل لصالح الجهاز، وفتح مكتب تجاري استخباري مع صديقه، كريستوفر بوروز. ولتمييز نفسها، اعتمدت شركة "أوربيس" على مهارات ستيل "الروسية"، في ظلّ المنافسة الحادة في بريطانيا، بين الشركات الخاصة التي كان يديرها موظفون استخباريون سابقون. ولم يذهب ستيل إلى روسيا، أو أي دولة سوفييتية سابقة، منذ العام 2009. كما لم يعلن كـ"شخصٍ غير مرغوب به" من قبل نظام بوتين، لكن مخبراً لـ"أوربيس" نقل عن عميل لـ"جهاز الأمن الفدرالي الروسي"، وصفه ستيل بـ"العدو للأم روسيا".
ولم ينشأ اهتمام ستيل بترامب من عمله لصالح حملة هيلاري كلينتون، كما يُروج الجمهوريون، بل هو يعود إلى ما قبل ذلك بكثير، ربما منذ عهد أولى القضايا التي استلمتها شركة "أوربيس" حول تحقيقين بشبكات جريمة دولية، كان زعماؤها يقيمون، مصادفةً، في برج ترامب في نيويورك. كما كان "اتحاد كرة القدم" الإنكليزي أول زبائن شركة ستيل الخاصة، بعدما خسر استضافة كأس العالم 2018 لصالح روسيا. حملت هذه القضية لاحقاً ستيل إلى الطلب من الـ"إف بي أي" ملاحقة الفساد داخل منظمة "الفيفا". وكان، وصديقه بوروز، قد اتفقا منذ إطلاق "أوربيس" على "واجب إبلاغ المملكة المتحدة والحلفاء"، إذا ما تمّ الوقوع على أي ملف ذي أبعاد أمنية وطنية". وعندما حمل ستيل شكوكه حول ترامب والتعاون مع روسيا إلى جهاز الـ"أف بي أي"، كان الدافع "الالتزام ببروتوكول أوربيس، أكثر منه لدوافع سياسية".
ومنذ ما قبل تورطه في النبش في ملفات الحملة الرئاسية الأميركية عام 2016، كان ستيل مقتنعاً بأن الكرملين يتدخل في الانتخابات التي تجري في دول الغرب. فعلى سبيل المثال، تروي مجلة "نيويوركر"، أنه في أبريل/ نيسان 2016، أنهى ستيل تحقيقاً سرياً أطلق عليه اسم "مشروع شارلمان"، وتضمن بحثاً عن التدخل الروسي في سياسة أربع دول في الاتحاد الأوروبي، هي فرنسا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، وألمانيا. وبحسب "نيويوركر"، كان "مشروع شارلمان" بمثابة "صافرة إنذار"، وتنبيهاً خطيراً بأن "أجهزة الاستخبارات الروسية، أصبحت أكثر استراتيجية، ومضرة بشكل أكبر". وبحسب المشروع، فإن "تدخل روسيا في انتخابات الدول الأجنبية، سيكبر مع الوقت ويصبح أكثر فاعلية".
ولادة "ملف ترامب"
في ربيع العام 2016، تواصل غلين سيمبسون، وهو صحافي استقصائي سابق في "وول ستريت جورنال"، ومؤسس "Fusion" في العام 2011، مع ستيل، على أمل مساعدته لتذليل بعض العقبات في ما يتعلق بعلاقة ترامب بروسيا. وقال سمبسون إنه يعمل لصالح شركة محاماة، لم يذكر اسمها.
وكان تمويل المشروع قد بدأ أساساً من قبل منظمة ممولة من المستثمر النيويوركي بول سينغر، وهو جمهوري كارهٌ لترامب. ولكن بعدما بدأ يتضح أن الأخير سيفوز بتسمية الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية، تخلى سينغر عن المشروع، لتقنع "Fusion" مارك الياس، المستشار العام لحملة كلينتون، بدعم بقية المشروع. هذا التمويل الثنائي، من الحزبين الجمهوري والدمقراطي، يدحض الاتهام بأن التحقيق مشبوه بسبب داعميه، بحسب المجلة الأميركية.
وتقول "نيويوركر" إن "سؤالاً واحداً ومحددا كان يقلق سمبسون، وهو لماذا ذهب ترامب مرات عدة إلى روسيا بحثاً عن إبرام صفقات، ولماذا كان يعود دائماً خالي الوفاض؟" وعندما تابع ستيل هذا الجانب تحديداً، توصل إلى نتيجة أذهلته، بمعاونة مخبريه، وهي أن جهاز الـ"أف إس بي" الروسي بإمكانه بسهولة ابتزاز ترامب، لسبب أول، هو أن الجهاز يمتلك تسجيلات مصورة، للرئيس الأميركي الحالي، تؤكد تورطه بـ"أفعال جنسية شاذة" في روسيا، وسبق أن نقل تفاصيلها موقع "بزفيد" الأميركي. ولكن الأكثر أهمية، هي الاتهامات بأن ترامب والكرملين كانا متواطئين في حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة.
وبحسب المخبرين، وصف الروس بأنهم "عملوا على رعاية ترامب، وتبادلوا الخدمات معه لمدة خمس سنوات". ووصف بوتين بأنه "دعم ترامب لزرع الشقاق والتفكك داخل الولايات المتحدة، والحلف العابر للأطلسي". وكتب التقرير، بحسب "نيويوركر"، أنه "بالرغم من أن ترامب لم يوقع على صفقات تجارية عقارية مع الروس، إلا أنه، ومساعديه الكبار، قَبِل مرات عدة، بالحصول على معلومات استخبارية من الكرملين تتعلق بهيلاري كلينتون ومنافسين سياسيين آخرين. وهي اتهامات تصل إلى حدّ الخيانة، حتى لو لم تثبت صحتها جميعها"، تقول مجلة "نيويوركر".
في يونيو/ حزيران 2016، اتصل سمبسون بكريستوفر ستيل، طالباً منه تسليمه الملف. وعلم سمبسون أن ستيل أبلغ مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي" عن الملف، لكنه اعتقد أنه مع زحمة الانتخابات الرئاسية، فإن الملف قد يكون سقط من حسبان الجهاز الأميركي. وفيما مرّ الصيف، لم تظهر أي بوادر على أن الـ"أف بي أي" أبدى اهتماماً بالموضوع.
بالإضافة إلى ذلك، تقول "نيويوركر" إنه بالرغم من حديث الجمهوريين عن مؤامرة ديمقراطية، ما هو أكيد أن ستيل وسمبسون لم يخبرا "الزبون الأساسي" - وهو مكتب المحاماة لحملة كلينتون- أن ستيل أعلم الـ"أف بي أي" بما لديه. وهكذا، لم يعلم هذا المكتب أن "مكتب التحقيقات الفدرالي" فتح تحقيقاً بعلاقات فريق ترامب بروسيا.
خلال هذا الصيف، بحسب ما تسرد أيضاً مجلة "نيويوركر"، لاحظ ستيل أيضاً وقوع بعض الأحداث التي تربط دائرة ترامب، بروسيا. منها، سفر كارتر بايج، وهو مستشار لترامب للشؤون الخارجية، إلى موسكو في يوليو/ تموز، في زيارة وافقت عليها حملة ترامب، وإلقاؤه محاضرة انتقد فيها "واشنطن وعواصم غربية أخرى"، لـ"تركيزها المنافق على أفكار كالدمقرطة، وعدم المساواة، والفساد، وتغيير النظام"، رافضاً الإجابة على أسئلة تتعلق بما إذا كان سيلتقي بمسؤولين روس. لاحقاً، أرسل ستيل مذكرة إلى "Fusion" أكد فيها أن بايج التقى بشخصيات روسية قريبة من الكرملين، منها رئيس مجلس إدارة شركة "روسنفت" النفطية الروسية العملاقة، إيغور سيشين. وتصف مذكرات ستيل مستشارين اثنين آخرين لترامب كـ"متعاطفين" مع روسيا، هما بول مانافورت، مدير حملة ترامب، ومايكل فلين، وهو أيضاً مستشار لترامب، عينه لاحقاً مستشاراً للأمن القومي قبل أن يقدم الأخير استقالته سريعاً بعد اتهامه بإجراء أحاديث مع السفير الروسي سيرغي كيسلياك حول العقوبات التي فرضها أوباما على روسيا قبل مغادرته البيت الأبيض. وأصبح فلين شخصية رئيسية في تحقيق المحقق الأميركي الخاص في التدخل الروسي، روبرت مولر، بسبب كذبه على الـ"إف بي آي" حول لقاءاته بكيسلياك.
"إف بي آي" غير مبالية
وتضيف "نيويوركر" أن ستيل كان يشعر بالاستغراب، بسبب عدم مبالاة الـ"إف بي آي" بعمله، فهو كان يشعر أن الولايات المتحدة تتعرض لخطر بحجم هجوم بيرل هاربر، وهو لم يكن يعلم أنه في تلك الأثناء، منذ أغسطس/ آب 2016، كان نقاشاً مشابهاً قد بدأ يدور في البيت الأبيض بين فريق الرئيس الأميركي ووكالات الاستخبارات الأميركية. لكن لم يصدر أي كلام رسمي من جانب إدارة أوباما حول التدخل الروسي المحتمل في الانتخابات، قبل تاريخ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وذلك من خلال مدير الاستخبارات الوطنية في إدارة أوباما، جايمس كلابر، ووزير الأمن الداخلي جي جونسون. وتحدث الرجلان عن "ثقة" الاستخبارات الأميركية بأن البريد الإلكتروني للجنة الوطنية في الحزب الديمقراطي، تعرض لقرصنة نفذها الروس. وبدا أن مدير الـ"إف بي آي" آنذاك، جايمس كومي، بدّل رأيه في اللحظة الأخيرة، مختاراً عدم الإدلاء بأي تصريح في هذا الشأن، عشية الانتخابات، لتحدث المفاجأة بتفجير قنبلة قبل أيام من الانتخابات، تتعلق مجدداً باستغلال كلينتون لبريدها الإلكتروني خلال توليها منصب وزير الخارجية الأميركية، ما أدخل الأيام الأخيرة لحملتها قبل الاستحقاق الانتخابي في حال من الفوضى.
وبحسب "نيويوركر"، وشهادة غلين سمبسون، فإنه وستيل شعرا بأن "هناك شيئاً ما يحصل داخل الإف بي آي"، وأنه "أصبح من الضروري إبلاغ العالم، أن المرشحين للرئاسة الأميركية يخضعان للتحقيق، وليست كلينتون وحدها". وبطلب من سمبسون، قرر ستيل الكلام للإعلام، فأعطى حديثاً إلى موقع "ماذرز جونز"، حيث عرف عن نفسه كضابط استخبارات غربي سابق فقط. وقال ستيل للموقع إنه قدم معلومات لجهاز الـ"إف بي آي" كجزء من "التحقيق" بعلاقات ترامب بروسيا، ما أغضب الـ"إف بي آي" التي أرادت أن تحمي تحقيقها من الرأي العام.
عندما انتهت الانتخابات الأميركية، واصل كريستوفر ستيل، بحسب "نيويوركر"، محاولاته لتنبيه السلطات الأميركية. وأرسل عبر وسيط في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، رسالة إلى السيناتور الجمهوري جون ماكين، ليبلغ الأخير بوجود ملف لديه حول ترامب. وتبلغ أوباما ونائبه جو بايدن بوجود الملف في بداية العام 2017، بعدما كانت أسرار الملف قد انتشرت في الإعلام. ويقول مصدر لـ"نيويوركر" في هذا الإطار: "لا أحد يفهم أن البيت الأبيض لم يكن مطلعاً على نشاط إف بي آي. فإف بي آي تضع كل ما يهم الأميركيين في علبة مقفلة".
أعدّ التقرير: داليا قانصو