28 أكتوبر 2024
من فصول العطش والموت في مصر
شهدت مصر، أخيراً ظواهر لافته وقاسية: حصار العطش عدداً من المناطق، وتعدّد حالات الموت وتفاقمها مع الموجة الحارة التي ضربت البلاد. ويمكن فهم الظاهرتين من زاوية تحليل السياسات الاقتصادية، ولا يمكن اختصار الموت والعطش نتيجة الإهمال والفساد، لكنها نتيجة ما تطبقه السلطة من سياسات متعلقة بالإنفاق العام على خدمات الصحة والعلاج والصرف الصحي والشرب. والفقراء هم الأكثر تضرراً، فمناطق الأغنياء لا تعرف العطش، ولا يتضرر أهلها من الموت في مستشفيات الشعب.
أهملت دولة حسني مبارك الصرف على الخدمات، وتصاعد الإهمال وخفض الإنفاق الاجتماعي مع تعمق الأزمة الاقتصادية، ولم يكن متوقعاً من دولة ترهن مصانعها وتبيعها، وتشرّد عمالها أن تنفق على الخدمات، فالحكومة طبقت ما سميت خُططاً للإصلاح الاقتصادي حلاً للأزمة الاقتصادية، وهي خطط في جوهرها أدوات للنهب، تُرك السوق للنهب، وكان التخلي عن دور الدولة في الإنتاج مجرد بداية.
أقرّت السلطة تشريعات اقتصادية لإخضاع المجتمع واقتصاده لقوى رأسمالية متوحشة، واقتصر الاهتمام على البنية التحتية بإنشاء مرافق وطرق تخدم رجال الأعمال، بحجة أن الإنفاق العام على البنية التحتيه يجذب الاستثمارات. أهملت ملفات السكن والمرافق الموجهة للشعب، واستحوذت فئة على القطاع العقاري، ورحل سكان المدن الجديدة المعروفة بالكمباوندات عن المدينة في عزلة اجتماعية اختيارية، وكان خيارهم (وما زال) الهرب من بؤس المدن التي تهالكت خدماتها، وفرض على أغلبية الشعب الذي يعيش 25 مليونا منه تحت خط الفقر بؤس المدينة، وعزلة اجتماعية إجبارية في مناطق الأطراف.
تستمر تلك السياسات، وتتم إعادة إنتاجها بشكل أكثر قسوة، خفض الدعم عن قطاعي الزراعة والطاقة، التخطيط لاستكمال خصخصة أو إعادة هيكلة خدمات النقل والتعليم والصحة، ولا تجد الدولة حلولاً للأزمة الاقتصادية، إلا إن يدفع الفقراء فاتورة علاجها عبر التقشف، وتطبيق سياسات إفقار تحت مفهوم ترشيد الإنفاق.
ببساطة، الدولة تتحلل ويتراجع دورها ويتقلص، إلا في مجال الأمن الذي يستخدم أداة قمع لحماية من نهبوا وينهبون بطرق مختلفة، بالسرقة المباشرة، أو عبر تشريعات اقتصادية، الاستبداد والفساد لا ينفصلان. يقمع الشعب، في وقت تتغنى السلطة فيها بشعبيتها الجارفة، ليطل السؤال ممن تخافون، اللصوص دوما يشعرون بالقلق، حتى وإن علت أسوار الحراسة التي تحيط بهم.
احتج الفقراء قبل الثورة على بؤس أحوال مدينتهم، كان العطش سبباً في الاحتجاج، اكتظت مناطقهم بالسكان، أُنشئت في غيبة من التخطيط. وفي ظل أزمة السكن وتحوله سلعة احتكارية، لجأ الناس إلى مناطق الأطراف للانخفاض النسبي لتكلفة المساكن.
توسعت المناطق "العشوائية" لتصبح النمط العمراني الأكثر انتشاراً، أغلبها محروم من الخدمات، وتعتمد على شبكات مياه المدينة المتهالكة، ليست كمية المياه المشكلة الوحيدة، بل عدم ملاءمتها للاستخدام البشري أيضا، منطقة "الخصوص" نموذج لإحدى أكبر عشوائيات القاهرة الكبرى؛ تكثر فيها حالات المرض المرتبطة بسوء نوعية الماء، فضلاً عن انقطاعها المتكرر، منشية ناصر والدويقة التي وعدت السلطة بتطويرها ليست استثناء، لا تختلف عشوائيات الجيزة كفر طهرمس وصفط اللبن وغيرها عن عشوائيات القاهرة. السلطة لا تعرف تلك المناطق، ولا تتضمنها الجولات المفاجئة لرئيس الوزراء، إبراهيم محلب، الذي يصطحب فيها كاميراته، تلك المناطق وأهلها ليست في نطاق نور عيون السلطة، مأساتها فصل من حكايات حزينة للمدن المنسية وأهلها المفقرين.
أزمة مياه الشرب في مصر مؤهلة للتصاعد، فنصيب مصر من نهر النيل 55 مليار متر مكعب، أي أن نصيب المواطن أقل من المعدل العالمي (1000 متر مكعب)، هذه النسبة مؤهلة للتراجع، مع فشل مفاوضات سد النهضة الإثيوبي، وستتفاقم مع زيادة عدد السكان وإهدار الموارد المائية.
تلعب السياسات الاقتصادية في مجال الإنفاق على خدمات مياه الشرب دوراً رئيسياً في إنتاج الأزمة، فقد تراجعت بشكل ملحوظ منذ عام 2008، وتراجعت، هذا العام، عمليات إحلال شبكات المياه وتجديدها، فلم توفر الدولة سوى 680 مليونا من تكلفة الصيانة الدورية المقدرة بملياري جنيه.
ينطلق أداء الحكومة من المثل الشعبي "أحيني النهاردة وموتني بكرة"، فتلجأ إلى حل الأزمة بصيانة شبكات شرب متهالكة، هذه الحلول في مجملها إهدار للمال العام، لأن حل المشكلة يستلزم، إلى جانب الصيانة الدورية، إنشاء شبكات جديدة، حتى لو ارتفعت تكلفتها، لأنها ستوفر جزءاً كبيراً من مصاريف الصيانة، لتصل الخدمة بمستوى أقل من التكلفة السنوية.
واقع الصحة في مصر مقلق، حيث تزداد معدلات الإصابة بفيروس سي ومرض الفشل الكلوي، ويعاني أطفال، منذ الولادة، من أمراض الحساسية والأنيميا، بينما تواجه الدولة الأمراض بخزعبلات اللواء عبد العاطي الذي سيحول فيروس سي إلى أصابع كفتة، لم تحتمل مصر موجة الحر التي مرت بها قبل أسابيع، وأعلن عن موت 120 حالة، وكشفت الموجة بؤس أوضاع الصحة، وفتحت باب النقاش بشأن مدى معالجة السياسات المطبقة للوضع الصحي.
على الرغم من رفع ميزانية الصحة من 40 مليار جنيه إلى 45 مليارا، فإنها لم تتناسب مع معدلات التضخم، ولم تصبّ في خانة تحسين أوضاع الخدمات العلاجية، بل تم إلغاء بنود وتقليص بعضها، مثل التأمين الصحي الذي انخفض من 1.6 مليار جنيه إلى 811 مليونا، وكذلك انخفض دعم ألبان الأطفال، ومخصصات العلاج على نفقة الدولة. وجاء هذا التقليص في الميزانية مترافقاً مع المشروعات التي كانت قد طرحت لخصخصة قطاع التأمين الصحي، بتحويله شركة قابضة.
الموت في السجون أمر آخر، حيث لا توجد رعاية طبية حقيقية، يعيش السجناء في ظروف قاسية تحمل، في جانب منها، طابعاً انتقامياً على أسس سياسية، لا يشفع المرض، ولا كبر السن لهم، مع الموجة الحارة حيث تم رصد حالات موت كثيرة بين السجناء، واكتفت وزارة الداخلية بالرد بأن السجون تحتاج إلى تطوير، وإنها تزدحم بالسجناء، وطالبت المالية بملياري جنية للتطوير، وإنشاء سجون أوسع.
تعرف مصر الموت غرقاً في القوارب، أو في حوادث الطرق التي يبلغ ضحاياها سنوياً أكثر من شهداء حرب أكتوبر، وتعرفه أيضا داخل السجون. تعرف العطش وبؤس مدنها وعشوائياتها، إنها مشاهد حزينة من مدن بائسة، وهموم ثقيلة لا تراها في وسائل الإعلام التي احترفت التطبيل وفرش الورد لكل خطوة يخطوها الحاكم.