من النادر أن يحصل كاتب أو صحافي فرنسي على الجنسية المغربية، لأنه ليس من المعتاد أصلاً أن يتقدّم لطلبها. لكن هذا حصل مع جاكلين ديفيد سنة 1959. قد لا يكون اسمها معروفاً على نطاق واسع في المشرق العربي، لكنها أحد أهم الوجوه في تاريخ الصحافة الثقافية والفكرية والسياسية في المغرب.
في أواسط النصف الأول من القرن الماضي، ستغادر جاكلين ديفيد (1937) مدينتها نورماندي لدراسة الصحافة في باريس، حيث ستلتقي هناك بمواطن مغربي الأم وجزائري الأب يحمل الجنسية الفرنسية. سيتزوج بها ويستقر الاثنان لاحقاً في طنجة. آنذاك، كانت جاكلين في عامها الواحد والعشرين تنضح بالحيوية، حين دخلت عالم الصحافة في عهد أول رئيس حكومة مغربية وهو عبد الله إبراهيم.
كانت شابة ذات ميول يسارية، ستشتغل في الصحافة الورقية في الدار البيضاء ثم في الإذاعة الوطنية في الرباط. وحين يصبح أحمد العلوي وزيراً للإعلام تجد نفسها مضطرة إلى تعليب أفكارها التحرريّة ونقلها إلى مكان آخر، لذلك ستجد نفسها في جريدة "الطليعة"، ثم في "الاتحاد المغربي للشغل" الذي ستغادره سنة 1964، حين أصبحت نقابته العمالية تدعو منخرطيها إلى الاكتفاء بملفاتهم المطلبية، والابتعاد عن العمل السياسي.
في تلك الفترة، ستغير اسمها الفرنسي إلى اسم عربي، فقد طلب منها مدير مجلة "جون أفريك" التي كانت تعمل مراسلة لها خلال الستينيات أن تغيّر اسمها الذي تذيل به مقالاتها في المجلة، ومنحها فقط خمس دقائق، فاختارت زكية داوود بدل جاكلين ديفيد.
بكثير من النضال والعناد أخرجت إلى الوجود مائتي عدد من مجلتها الشهيرة "لام ألف" الناطقة بالفرنسية، والتي ظلّت تصدر في المغرب من سنة 1966 حتى 1988، في فترة صعبة من التاريخ السياسي للبلاد. في أحد حواراتها، صرّحت داوود بأن اختيار اسم "لام ألف" كانت له دلالة غير معلنة، فاللاّم والألف هما الحرفان العربيان الّلذان يشكلان "لا" الدالة على الرفض والاحتجاج والمعارضة.
في "لام ألف"، كان يكتب عبد الكبير الخطيبي وبول باسكون وعبد الله العروي، وكان يكتب مع هؤلاء وفي الفترة نفسها مجموعة من الشبان المهتمين بالفكر الاقتصادي، هم فتح الله ولعلو والحبيب المالكي وخالد عليوة، الذين سيصيرون وزراء في عهد حكومة الاتحاد الاشتراكي خلال التسعينيات.
وبعد عقدين ونيف من التنوير والنقاش الثقافي والفكري والسياسي الذي كان يزعج في معظمه الجهات الرسمية في البلاد، ستتوقف المجلة سنة 1988 تحت ضغط وتهديد وزير الداخلية والإعلام في عهد الحسن الثاني إدريس البصري، الذي كان يرى أن المجلة "تُهين الملك"، وعمل آنذاك بكل ما في مقدوره على تجفيف منابعها واستقطاب الكتاب والمفكرين المساهمين فيها.
لم تكتب زكية داوود عملاً واحداً عن فرنسا وحياة الفرنسيين، بينما كان المغرب هو منبع وموضوع الكتابة بالنسبة إليها، فألّفت عنه مجموعة من الكتب التاريخية والسوسيولوجية أيضاً، إذ تناولت في مؤلفاتها: النسوية والسياسة، مشاكل المتوسط، الهجرة والمواطنة، جبل طارق، حياة كل من عبد الكريم الخطابي والمهدي بن بركة، إضافة إلى كتابها الأخير الذي صدر العام الماضي، والذي كان عودة إلى تاريخ الملك الأمازيغي القديم "جوبا".
لم يتعلق الأمر بالأعمال ذات الطابع النقدي والتوثيقي، بل امتدّ هذا الولع المغربي إلى أعمالها الإبداعية، فكانت روايتها الأولى "زينب.. ملكة مراكش" تنقيباً في التاريخ المغربي وعودة إلى مرحلة المرابطين خلال القرن الحادي عشر.
تقدّم داوود في الرواية تفاصيل قصة حب زينب النّفزاوية والأمير يوسف بن تاشفين في المدينة التاريخية "أغمات"، حيث سيبني الأمير على مقربة منها، وبتشجيع من زينب، المدينة الحمراء "مراكش" التي ستصير عاصمة البلاد لفترة طويلة. أمّا روايتها اللاحقة "حفدة زينب" فهي امتداد للرواية الأولى، لكن بكثير من التخييل هذه المرة، ستنتقل إلى عهد الموحدين وتخترع فيه شخصيات جديدة يفترض أنها من سلالة زينب، وتخلق لها مصائر مختلفة.
أثرت داوود النقاش الفكري والسياسي في المغرب خلال مرحلة كان المغاربة يسمونها "سنوات الرصاص". ومع مطلع الألفية الجديدة، اختارت أن تلجأ إلى التأمل واستعادة ذكرياتها القديمة التي صدرت في كتاب بعنوان "سنوات لام ألف".
لم يكن هذا المؤلف سرداً لسيرتها الصحافية فحسب، وللمعاناة التي عاشتها ككاتبة في زمن كانت الرقابة على أشدّها، بل كان الكتاب أيضاً قراءة في بعض ظواهر المجتمع المغربي الذي كانت السلطة تحشر أنفها في كل شقوقه.
ربما صارت مساحة الحرية اليوم أكثر شساعة قياساً مع ما مضى، وربما توفرت الكثير من الوسائل الحديثة التي تخدم الصحافة والثقافة، لكن من يستطيع اليوم أن يصدر في المغرب مائتي عدد من مجلة فكرية وسياسية لا تتوقف عن المساءلة والنقد والنقاش الجريء الرصين؟