من بحر قزوين إلى بحر الظلمات

15 أكتوبر 2015
+ الخط -
بحر قزوين مغلق، يقع فى غرب آسيا، وتطل عليه روسيا وإيران وتركمانستان وأذربيجان وأوزباكستان. ويعرف، أيضاً، باسم بحر الخزر، نسبة إلى قبيلة الخزر الشهيرة التى كانت تعيش على سواحله، وأقامت دولة الخزر اليهودية المعروفة تاريخياً بالقبيلة الثالثة عشر، لأنها لا تنتمى أنثروبولوجياً (عرقياً) إلى بني إسرائيل. برز اسم بحر قزوين في عناوين الأخبار، عندما أعلن وزير الدفاع الروسي في اجتماع مع الرئيس فلاديمير بوتين، يوم السابع من أكتوبر/تشرين أول الجاري، أن القوات الروسية أطلقت من أسطول بحر قزوين 26 صاروخاً باليستياً/ مجنحاً عابراً للقارات على أهداف فى الأراضى السورية على مسافة 1500 كم، وأنها أصابت أهدافها المتمثلة في قواعد ومراكز عسكرية لجماعات إسلامية متطرفة ومعارضة لنظام الأسد، بكل بدقة، بعد مرورها عبر الأراضى الإيرانية، والعراقية، وتجنبها الأراضى التركية.
تلك كانت افتتاحية العمليات العسكرية الروسية المباشرة في سورية، دعماً لنظام الأسد، والتي سبقتها عملية حشد عسكري، بدأت في يوليو/تموز الماضي، بتمركز عناصر من القوات الجوية والبحرية والبرية، سواء في القاعدة العسكرية في طرطوس، أو في ميناء اللاذقية، أو فى العاصمة دمشق نفسها، وبعض القواعد الباقية تحت سيطرة النظام السوري.
مثل الخبر مفاجأة لكثيرين، ليس لأنه يتضمن تدخلاً روسياً سافراً في سورية، لأن ذلك التدخل، بالإضافة إلى غيره، مثل تدخل إيران وحزب الله، كان وارداً، بل وتقابله باقي الأطراف التى تعلن دعمها الشعب السورى وثورته بكثير من غض الطرف. وكان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قد أعلن في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أنه مستعد للتعاون مع روسيا وإيران فيما يتعلق بسورية، كما بحث الأمر فى اجتماع ثنائى مع بوتين، إذا لم يكن التدخل الروسى مفاجأة، حتى للأطراف العربية التي كانت تتابع عمليات الحشد الروسية العلنية، لكن المفاجأة للجميع كانت إطلاق مثل تلك الصواريخ المتطورة بعيدة المدى، من على متن قطع أسطول حديثة، تمتلك، بالقطع، نظام قيادة وسيطرة وتوجيه فائق الدقة، وتقبع في بحر قزوين المغلق. وبالتأكيد، لم تكن هناك أهداف سواء لتنظيم الدولة الإسلامية، أو لأي جماعات مسلحة أخرى فى سورية تحتاج استخدام تلك الصواريخ في ظل وجود وسائل عديدة متوفرة على الأراضي السورية، من طائرات وراجمات صواريخ وغيرها. وبالتالي، قد يكون الهدف الحقيقى هنا عملية استعراض للقوة، ورسالةً قد تكون موجهة إلى أطراف عديدة، داخل منطقة الشرق الأوسط وخارجها، مفادها أن روسيا قادرة على الوصول، بصواريخها المجنحة، ومن قواعد داخل أراضيها، إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة الأميركية وألاسكا، وإلى أي مكان في أوروبا، وأيضاً في الشرق الأوسط.
ولعل هذا ما دفع وسائل إعلام ومصادر أميركية إلى الإعلان عن سقوط أربعة صواريخ
باليستية روسية أطلقت من أسطول بحر قزوين على الأراضى الإيرانية، دلالة على فشل عملية الإطلاق، وقد سارعت وزارة الدفاع الروسية إلى نفى الخبر، لكن المصادر الأميركية تمسكت بموقفها.
على أي الأحوال، لم تكرر روسيا إطلاق صواريخها المجنحة، لكنها ركزت على عملياتها داخل سورية، براجمات الصواريخ التكتيكية والقوات الجوية، بعد أن أعادت تنظيم مجموعة قتال برية سورية من جيش الأسد وتسليحها، باسم المجموعة الرابعة، تقوم بالعمليات البرية تحت الغطاء الجوي والنيراني الروسي، سعياً إلى استعادة السيطرة على بعض المناطق الحيوية من المقاومة السورية المسلحة، في مخطط يهدف إلى حصر الصراع فى سورية بين طرفين فقط، نظام الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية.
وسط هذه الأجواء، تخرج تصريحات من واشنطن، تحذر موسكو من تجاوز خطوط معينة، يبدو أنها متفق عليها مسبقاً، وتعلن إرسال شحنات كبيرة من السلاح والذخائر للمعارضة السورية، وتخرج تصريحات من موسكو، تقول إن هناك تنسيقاً عسكرياً وثيقاً بين الكرملين والبنتاغون فيما يتعلق بالعمليات على المسرح السوري. وتتردد أخبار من مصادر إعلامية غير رسمية أن دبابات وراجمات صواريخ روسية الصنع اتجهت من الإسكندرية إلى اللاذقية لإعادة تسليح الجيش السوري، بتنسيق مصري – روسي.
وتزداد علامات التعجب، يوماً بعد آخر، بأخبار زيارات عربية رفيعة المستوى إلى موسكو، ولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع، محمد بن سلمان، يلتقي بوتين في حضور وفد كبير. ويخرج وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، ليؤكد موقف بلاده، ودعوة موسكو إلى المساهمة في الحل السياسي على أساس بيان "جنيڤ 1" ومرحلة انتقالية بدون الأسد. بينما يؤكد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، على استعداد موسكو للتعاون العسكري مع الرياض، للوصول إلى الحل السياسي. ثم وفي اليوم نفسه، وفي منتجع سوتشي، يلتقي بوتين مع ولي عهد أبو ظبى نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في دولة الإمارات، محمد بن زايد، وتجري محادثاتهما عن سورية والدور الروسي، والموقف العربي منه. وفي اليوم التالي، يعلن لافروف، بوضوح، أن القوات الروسية فى سورية لدعم جيش بشار الأسد. ثم تأتي الحادثة الإرهابية البشعة التي تعرضت لها تركيا، تفجيران في أنقرة، يسقط نحو 120 قتيلاً و200 جريح، قبيل انتخابات إعادة برلمانية شديدة الأهمية، ما يُبعد تركيا، ولو مؤقتاً عن المشهد السوري، على الرغم من الاختراقات الجوية الروسية، ويؤكد "الناتو" دعمه تركيا ضد روسيا.
ووسط هذه المستجدات، والأخبار السلبية والمحبطة التى يعيش فيها المواطن العربي، يأتي خبر خارج السياق من أوسلو، حيث أُعلن منح جائزة نوبل للسلام لعام 2015 للجنة الرباعية التونسية التى أدارت الحوار الوطنى التونسي، وانتهى بالوفاق بين الفرقاء، في رسالة من لجنة الجائزة إلى العرب أن عليهم أن يتحاوروا، ويقبلوا الحلول الوسط، أو أنصاف الحلول، وأن يخفضوا من سقف طموحاتهم الثورية، فلا ثورات حاسمة، ولا سُلطات حكم غاشمة، ليصلوا إلى بر الأمان، وينعموا بالسلام.
هذا هو المشهد العربي، يقترب من الملهاة الإغريقية، المختلطة بالأساطير الخرافية، فمن كان يتصور أن تُحلق في سماء سورية "الحبيبة" العربية قاذفات التورنيدو البريطانية والميراچ والرافال الفرنسية، والسوخوي والميغ الروسية، وإف 15 وإف 16 الأميركية، جنباً إلى جنب.
ثم تأتي صواريخ كروز الروسية المجنحة من سفن بحر قزوين، لتدفع سفن العرب إلى بحر الظلمات.

2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.