11 نوفمبر 2024
منذ الرشفة الأولى
إنها، بدون شك، نعمةٌ لا يُنكرها سوى جاحد غير مدرك جوهر الأشياء، ومهما تنوّعت تجاربنا وتعدّدت في مسارات هذه الحياة، سوف نظل قاصرين عن إدراك معانيها، إلى أن يمنّ الله ويُقدر، فنُصاب بها في لحظة سخاءٍ كونية، عندها نتوقف عن كوننا ذواتٍ مستقلة، ونرتبط، مختارين وإلى الأبد، بذلك الإحساس الإعجازي الآسر بالحب الوفير دافقاً في الروح، غامراً إياها بسكينةٍ تشبه اليقين، فنتغير. وفي لحظةٍ خاطفةٍ، تتجلى فينا الغريزة، ما أن يزعق الوليد خارجاً للتو من رحمٍ احتضنته شهوراً تسعا.
يخرج مذعوراً محتجاً صارخاً منفصلاً عن حبلٍ سرّي في مخاضٍ سوف يربطه، إلى الأبد، بتلك المرأة ثقيلة الوزن المستلقية في غرفة العمليات، غافلة عن مسح عرقها المتصبّب، منساقة بكل جوارحها لثلاثة كيلو من الجمال الخالص، مصدّقة بشكل نهائي وحاسم أن الحب قابلٌ للحدوث في لحظةٍ غامضةٍ منفلتة من أسر المنطق والمعقول والواقع.
وتتحدّد ملامح ذلك الحب المعجزة، لحظة استقرار رأس الصغير على صدر أمه، المتلهف للعطاء، ليصبح الرباط المقدس متيناً منذ الرشفة الأولى، على الرغم من أن الولادة الحديثة، وبفضل صرعات التقدم العلمي، فقدت جزءاً ليس يسيراً من مهابتها ودراميّتها، فلم تعد، بعد الآن، رمزاً للوجع المبرّح الذي يشق الروح، منذ اقترح علينا الطب المتقدّم حلولاً سحريةً، من شأنها أن تجعل آلام الطلق في حدّها الأدنى، بحيث باتت من مخلفات الماضي، ولعلها سوف تنضم، فيما بعد، إلى باقي مفردات التراث الإنساني، فبمجرد أن تعطى المرأة حقنةً في الظهر، تبلغ قيمتها مائة وثمانين ديناراً أردنياً، حتى تتلاشى كل آلام المخاض الرهيبة التي كانت تدفعها إلى الصراخ المستمر من هول الألم، ولربما لترديد بعض الشتائم بحق الزوج الذي يذرع البهو مذعوراً، وهو يستمع بعجزٍ وخجلٍ لتلك الصرخات المفزعة، القادمة من غرفة الولادة، إلى أن يحسم الوجع بصرخة الوليد الطازج، مبشّراً بالحياة.
ولعل الوقت كذلك قد حان، كي يكف المبدعون عن استعارة آلام المخاض، للدلالة على معاناتهم، لأنها فقدت رومانسيتها، ولم تعد مقنعةً كالسابق.
والحق أنه لو توفرت هذه الوسيلة العبقرية منذ وقت مبكر، لتصاعد معدل المواليد، ولأنجبت معظم النساء عشرة أطفال حدّاً أدنى، ضاربات عرض الحائط هموم المعيشة وتكاليفها، لما تختزنه روح المرأة، في العموم، من عشقٍ غريزي بديهي لهؤلاء الصغار. وكثيراً ما ضبطت نساء في أي زيارة لأي مستشفى، وهن يتسللن إلى قسم الولادة، كي ينظرن بشغفٍ خلال النافذة الزجاجية العريضة للحاضنة بأقصى مشاعر البهجة إلى تلك المخلوقات الطريّة الهشة المدهشة، وهي تحدّق بالعالم بارتيابٍ وتوجّس.
الأمومة حالة في منتهى الخصوصية، ولا تتأتّى هكذا وفق البيولوجيا فحسب، إذ ليس كافياً أن يتوفر شرط الأنوثة، كي نعتبر أن الأمومة تحقّقت حكماً. ليس الأمر بهذه البساطة، وإلا لما سمعنا عن أمهاتٍ قتلن بدمٍ باردٍ، وبوحشيةٍ مطلقةٍ، صغارهن، وألقين بهم في العراء، لمجرد إنقاذ أعناقهن، أو سعياً وراء وهم سترٍ لن يستر سواد أرواحهن في جميع الأحوال.
من هنا، لا بد من التأكيد على أن الأمومة ليست شأناً نسوياً خالصاً، بل ثمّة كثيرون من الرجال الرؤومين الذين يتميزون باللياقة والحنان والعطف، ويستحقون هذا اللقب، لفرط حبهم وجزيل عطائهم، وقدرتهم على التعبير عن حبّ صغارهم وحماية رموش أعينهم، وانخراطهم في الاعتناء، والرعاية بكل تفاصيلها المتعبة في أحيانٍ كثيرة، ما يؤهلهم لأن يحظوا بملامح أمومةٍ مكتملة شروطها الإنسانية، بالمعنى الدافئ للكلمة.
لا جدال في أن الأمومة امتياز ومنحة سماوية، ينبغي أن نصلي، لكي نكون جديرين بها، على كثرة متاعبها وانهماكاتها من سهر ليالٍ طوال، ونكرانٍ تام للذات، وتضحية بكل ما يبدو من متع ومباهج في الحياة، من أجل أن ينام الصغير دافئاً مطمئناً إلى حضن الماما المتوفر، على الدوام، وهي التي تراه أجمل مخلوقٍ في الكون، في تطرّفٍ أمومي مقبول، لا تبرّره سوى سطوة الحب فقط لا غير.
يخرج مذعوراً محتجاً صارخاً منفصلاً عن حبلٍ سرّي في مخاضٍ سوف يربطه، إلى الأبد، بتلك المرأة ثقيلة الوزن المستلقية في غرفة العمليات، غافلة عن مسح عرقها المتصبّب، منساقة بكل جوارحها لثلاثة كيلو من الجمال الخالص، مصدّقة بشكل نهائي وحاسم أن الحب قابلٌ للحدوث في لحظةٍ غامضةٍ منفلتة من أسر المنطق والمعقول والواقع.
وتتحدّد ملامح ذلك الحب المعجزة، لحظة استقرار رأس الصغير على صدر أمه، المتلهف للعطاء، ليصبح الرباط المقدس متيناً منذ الرشفة الأولى، على الرغم من أن الولادة الحديثة، وبفضل صرعات التقدم العلمي، فقدت جزءاً ليس يسيراً من مهابتها ودراميّتها، فلم تعد، بعد الآن، رمزاً للوجع المبرّح الذي يشق الروح، منذ اقترح علينا الطب المتقدّم حلولاً سحريةً، من شأنها أن تجعل آلام الطلق في حدّها الأدنى، بحيث باتت من مخلفات الماضي، ولعلها سوف تنضم، فيما بعد، إلى باقي مفردات التراث الإنساني، فبمجرد أن تعطى المرأة حقنةً في الظهر، تبلغ قيمتها مائة وثمانين ديناراً أردنياً، حتى تتلاشى كل آلام المخاض الرهيبة التي كانت تدفعها إلى الصراخ المستمر من هول الألم، ولربما لترديد بعض الشتائم بحق الزوج الذي يذرع البهو مذعوراً، وهو يستمع بعجزٍ وخجلٍ لتلك الصرخات المفزعة، القادمة من غرفة الولادة، إلى أن يحسم الوجع بصرخة الوليد الطازج، مبشّراً بالحياة.
ولعل الوقت كذلك قد حان، كي يكف المبدعون عن استعارة آلام المخاض، للدلالة على معاناتهم، لأنها فقدت رومانسيتها، ولم تعد مقنعةً كالسابق.
والحق أنه لو توفرت هذه الوسيلة العبقرية منذ وقت مبكر، لتصاعد معدل المواليد، ولأنجبت معظم النساء عشرة أطفال حدّاً أدنى، ضاربات عرض الحائط هموم المعيشة وتكاليفها، لما تختزنه روح المرأة، في العموم، من عشقٍ غريزي بديهي لهؤلاء الصغار. وكثيراً ما ضبطت نساء في أي زيارة لأي مستشفى، وهن يتسللن إلى قسم الولادة، كي ينظرن بشغفٍ خلال النافذة الزجاجية العريضة للحاضنة بأقصى مشاعر البهجة إلى تلك المخلوقات الطريّة الهشة المدهشة، وهي تحدّق بالعالم بارتيابٍ وتوجّس.
الأمومة حالة في منتهى الخصوصية، ولا تتأتّى هكذا وفق البيولوجيا فحسب، إذ ليس كافياً أن يتوفر شرط الأنوثة، كي نعتبر أن الأمومة تحقّقت حكماً. ليس الأمر بهذه البساطة، وإلا لما سمعنا عن أمهاتٍ قتلن بدمٍ باردٍ، وبوحشيةٍ مطلقةٍ، صغارهن، وألقين بهم في العراء، لمجرد إنقاذ أعناقهن، أو سعياً وراء وهم سترٍ لن يستر سواد أرواحهن في جميع الأحوال.
من هنا، لا بد من التأكيد على أن الأمومة ليست شأناً نسوياً خالصاً، بل ثمّة كثيرون من الرجال الرؤومين الذين يتميزون باللياقة والحنان والعطف، ويستحقون هذا اللقب، لفرط حبهم وجزيل عطائهم، وقدرتهم على التعبير عن حبّ صغارهم وحماية رموش أعينهم، وانخراطهم في الاعتناء، والرعاية بكل تفاصيلها المتعبة في أحيانٍ كثيرة، ما يؤهلهم لأن يحظوا بملامح أمومةٍ مكتملة شروطها الإنسانية، بالمعنى الدافئ للكلمة.
لا جدال في أن الأمومة امتياز ومنحة سماوية، ينبغي أن نصلي، لكي نكون جديرين بها، على كثرة متاعبها وانهماكاتها من سهر ليالٍ طوال، ونكرانٍ تام للذات، وتضحية بكل ما يبدو من متع ومباهج في الحياة، من أجل أن ينام الصغير دافئاً مطمئناً إلى حضن الماما المتوفر، على الدوام، وهي التي تراه أجمل مخلوقٍ في الكون، في تطرّفٍ أمومي مقبول، لا تبرّره سوى سطوة الحب فقط لا غير.